التنوع | توفير حيز لنمو الجميع

03 ايلول/سبتمبر 2008

الطالبة المهاجرة الصالحة

 

بقلم بتش مِنْه نغويين

غادرت عائلة هذه الكاتبة سايغون في 29 نيسان/إبريل، 1975، عندما كان عمرها ثمانية أشهر. وبعد المكوث في معسكرات اللاجئين في الفيليبين، وغوام، وقاعدة فورت شافي العسكرية بولاية آركنسو، استقرت العائلة في غراند رابيدس بولاية ميشيغن. هذا المقال مُقتطف من كتابها، سرقة عشاء بوذا، ومقالتها، الطالبة المهاجرة الصالحة.

        نغويين هي أستاذة مساعدة تُدرّس الكتابة الخلاّقة والأدب الأميركي الآسيوي في جامعة بيردو في وست لافاييت، بولاية إنديانا.إنها مؤلفة كتاب، سرقة عشاء بوذا  (نشر فايكنيغ بنغوين، 2007).

        وصلنا إلى غراند رابيدس مع خمسة دولارات وحقيبة ظهر من الثياب. أمَّن لنا السيد هايدنغا، الذي كفلنا، مكان إقامتنا في بيت مأجور، وبعض البقالة – أرز في عُلب، عجائن بالبيض، عُلب من الفاصوليا الخضراء - وأعطانا ثياباً أصبحت صغيرة على بناته. وظّف والدي للعمل على ماكنة تعبئة في نورث أميريكان فِيذِير، أحد معامله. كان السيد هايدنغا يرتدي معاطف رياضية فضفاضة وكان شعره أصفر. علّمونا، أختي وأنا، أن نتلفّظ بإسمه بصوت خافت كدليل احترام. لكن عندما كان يتوقف ليسأل عنا، كانت جدتي تقول لنا أن نبقى صامتتين لأن هذا من بوادر السلوك الحسن. كان يقول، هالو با بنات، وينحني ليُربّت بلطف على رأسنا.

        كان ذلك في تموز/يوليو، 1975، لكن كنا نشعر بالبرد. البرد دائماً، بعد فييتنام. أنفق عمّي، تشو كوونغ، بتسرّع دولارين من مال العائلة لشراء سترة من جيش الخلاص، فكسب تأنيباً من جدتي. كنا سبعة في هذا المنزل الرمادي في شارع بالدوين: والدي، وجدتي نوي، وثلاثة أعمام، وشقيقتي، وأنا. الطابق العلوي كان للأعمام أما في الطابق السفلي، تقاسمنا أختي وأنا غرفة مع جدتي نوي. لم يعرف والدي كيف ينام خلال الليل. كان يدور في المنزل، ويتأكد مرتين من القفل على الباب الأمامي. كان يلقي نظرة جانبية خاطفة على النوافذ المثبتة بشريط لاصق، في حال كان هناك إنسان ما يشاهدنا من الشارع.

        ترعرت في الثمانينات من القرن الماضي قبل أن يتسرّب التنوع والإدراك المتعدد الثقافات ببطء إلى وست ميشيغن. قبل أن يصبح موضوع الإثنية مقبولاً. قبل أن تبدأ المطاعم التايلاندية بالظهور فجأة في كل بلدة. عندما أفكر بغراند رابيدس، أتذكر لافتات المدينة المغطاة بصور الأعلام المرفرفة التي تعلن انها "المدينة الأميركية بالكامل". خلال الثمانينات من القرن الماضي، كانت لوحة عملاقة تَلوح فوق الشارع الذي يقود إلى وسط المدينة التجاري تفاخر بهذا الشعار أمام أنظار جميع الذين يقودون سياراتهم على منعطف S الثلاثي الممرات. لم يكن بإمكاني كطفلة معرفة ما كانت تعني عبارة "أميركي بالكامل". هل كانت وعداً، أم تهديداً، أم إنذاراً؟

          عندما تزوج والدي روزا، حين كنت في سن الثالثة، كانت تريد مني ومن شقيقتي أن نتابع الدراسة باللغتين. لم تكن تؤمن بالانصهار الكامل بل بالمحافظة. كانت تخاف أن تسيطر اللغة الإنكليزية تماماً علينا فتطرد اللغة الفيتنامية من رؤوسنا. كانت على حق. كنا شقيقتي وأنا "نتأمرك" منذ اللحظة التي ندير فيها جهاز التلفزيون.

        أعرف الكثير عن أطفال المهاجرين الذين حاولوا الاحتفاظ بالطريقتين: الاحتفاظ بلغة للمنزل والعائلة، واستخدام اللغة الإنكليزية في المدرسة، ومع الأصدقاء، وفي أي مكان آخر في العالم. إلى حد ما، لم أستطع تدّبر هذه الحياة المزدوجة. أمضيت معظم سنوات المدرسة وأنا أحاول أن لا يلاحظني أحد. ولأنني لم أقدر على الاختفاء ضمن الحشود، كنت أتمنى أن أختفي بالكامل. كان بإمكان أي كان أن يفكر خطأً أن ذلك سببه السلبية.

        في إحدى المرات، اختفيت في الباص في طريقنا إلى المنزل. كان نزولي عند الموقف الثالث، لكن في ذاك اليوم، فكرّت السائقة أنني غائبة، وواصلت سيرها عند الزاوية اليمنى لشارعي. لم أقل شيئاً. واصل الباص سيره باتجاه وسط المدينة التجاري، وتعرفت على الأماكن التي يعيش فيها الأطفال الآخرون، البعض منهم في ضواح نظيفة ومرتّبة، وآخرون في شوارع كانت النوافذ فيها مغلقة بألواح خشبية. طيلة فترة الرحلة، كان الطفل الجالس صوب الممّر يلعب مراراً وتكراراً نفس الأغنية المَرِحة من صندوق الموسيقى لديه:

 Pass the doochee from the left hand side, pass the doochee from the left hand side.

وتبيّن أنه وشقيقه كانا آخر ولدين يغادران الباص. عندها شاهدتني السائقة عبر المِرآة الخلفية، مشت إلى حيث كنت جالسة وقالت، "لماذا لم تقولي لي إنك هنا؟" هززت رأسي: لا أعرف. تنهّدت وقادتني إلى منزلي.

        فيما بعد، في المدرسة الثانوية، تَعلّمت أن أنسى نفسي قليلاً. تعلمت متعة اللامبالاة، ونسيان بُشرتي وجسدي لدقيقة أو دقيقتين، غير آبهة بما قد يحصل إذا ما دخلتُ متأخرة إلى الغرفة، وإذا استدارت الرؤوس نحوي. تعلّمت المتعة التي تكشف عن نفسها في فقدان الوعي الذاتي مهما كان طفيفاً. هذه الأشياء حصلت لأنني بقيت تلك الطالبة المهاجرة الصالحة دون أن أرفع يدي كثيراً في الصف أو أتباهى بما أعرف. كنت أحفظ دروسي عن ظهر قلب، وواصلت التصرف كذلك لكي انسجم. لم أتمكن من التخلص تماماً من رهبة الكلام في الصف، لكن ثمة فارقا بين أن يكون المرء صالحاً وأن يكون غير مُلاحَظ، ومن خلال هذه الشريحة الرقيقة من فرصة الحرية تعلمت أن بإمكاني أن أسير في العالم لأكون مرئية بجلاء.

        أودّ الإدلاء بتصريح واسع ودقيق حول الطلاب المهاجرين في المدارس. أودّ أن أتحدث بالنيابة عنهم. إنني أتردّد، لا أستطيع. شقيقتي، مثلاً، لم تكن خجولة بقدري أنا، فقد اختارت التمرّد بدلاً من السكوت. توصّلنا إلى ترتيب: أكتب لها بعض التقارير وتدفع لي نقداً أو سكاكر. كانت تنقلني إلى المدرسة إن أنا وعدت بأن لا أخبر أحداً عن تدخينها. في نفس الوقت أفكر بصديقة لي هندية قالت لي كيف أن إحدى زميلاتها الشقراوات في المدرسة الابتدائية قالت للمعلم، "لا أستطيع الجلوس إلى جانبها. قالت لي أمي إنه لا يمكنني الجلوس إلى جانب أي كان أسمر اللون". وصديقة أخرى، هاجرت عائلتها في نفس الوقت مثلنا، استخدمها معلّم الصف الثاني كمثال لغوي: "أيها الأولاد، هذا ما هو الأجنبي". وهناك أوقات أغوص فيها بالتفكير بأن لدى الأولاد اليوم حكمة ثقافية جماعية أكبر، وأنهم أوعى بكثير اجتماعياً وسياسياً مما كان أي منهم عندما كنت في المدرسة.

        لكن، أخشى أن أكون على خطأ، وأن بعض الأطفال يريدون دائماً الاختفاء ويختفون، حتى انهم يختفون بالفعل. أحياناً أفكر أنني أراهم، في الخلفية المُشوّشة لصورة فوتوغرافية في مجلة، أو في زمرة من الأولاد يلحقون بمساعد للمعلّم عبر الشارع. أولاد رؤوسهم منحنية، يمشون بطريقة يبدون فيها كما لو أنهم يشعرون حتى كيف يتنفسون. صغار، خجولون، هادئون – أولاد طيبون، مهاجرون، أجانب، أعينهم تراقب كأنهم ينتظرون أي حكم سوف يصدر عليهم. إنني أطمئن نفسي أنهم سوف يترعرعون جيداً، وأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن الأمور ستسير لصالحهم، كما سارت إلى حدّ ما معي. ربما سوف أجتاز نفس الشارع، ثم آخر، فألقي نظرة بعض المرات إلى الوراء لأرى إلى أين يذهبون.

        أعيد نشر هذا المقتطف بالتفاهم مع دار فايكينغ للنشر، وهذه الدار عضو في مجموعة بنغوين (الولايات المتحدة) إنك، من كتاب "سرقة عشاء بوذا"، بقلم بِتش مِنْه نغويين. أعيد نشرها من "الطالبة المهاجرة الصالحة " لبِتش مِنْه نغويين، باذن من المؤلفة.

 

الآراء المعبر عنها في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر أو سياسات الحكومة الاميركية.

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي