التعليم والدراسة | نحو تحقيق أهداف المستقبل

30 أيار/مايو 2008

تجربة غيّرت مجرى الحياة

من الممكن تعلم دروس مهمة في الحياة من أبسط المهمات

 

بقلم فريز إسماعيل زاده

هذا ما يخلص إليه الأذربيجاني فريز إسماعيل زاده، لدى استعادة ذكريات تجربته كطالب في الولايات المتحدة ضمن برنامج تبادل، والتمعن فيها.

 أقام فريز في الولايات المتحدة كطالب في برنامج تبادل في مدرسة ثانوية، وثم في جامعة. وقد عاد إلى أذربيجان حيث أكمل دراسته الجامعية وتخرج من جامعة وسترن يونيفرسيتي في باكو وعمل في مجال مناصرة الديمقراطية والدعوة إليها. يعمل فريز اليوم في وزارة خارجية أذربيجان كمدير لبرامج التدريب في الأكاديمية الدبلوماسية. وهو يشغل أيضاً منصب رئيس جمعية الخريجين الأذربيجانيين، التي تضم نظراءه الأذربيجانيين المتخرجين من جامعات أميركية. 

في العام 1995، وكنت آنذاك في السادسة عشرة من عمري، تمّ قبولي في برنامج تبادل تلاميذ المدارس الثانوية، الذي يسمى برنامج تبادل قادة المستقبل، وترعاه وزارة الخارجية الأميركية. أذكر أنني كنت أحمل في ذهني العديد من الصور النمطية عن الأميركيين والحياة في الولايات المتحدة، في ذلك الوقت. كانت معرفتي بالعالم محدودة جداً آنذاك نظراً لكوني من بلدة "لانكاران" الريفية في جنوب البلاد، ولكونه لم يكن قد انقضى أكثر من أربع سنوات على بدء انفتاح بلادي على العالم.

وكنت أشعر أنا ووالدي ووالدتي بالقلق بشأن بقائي طوال سنة كاملة في كنف عائلتي المضيفة في أميركا. ورغم هذه المخاوف، كنت متحمساً وسعيداً بهذه الفرصة التي أتيحت لي.

في ذلك اليوم في المطار، حين كانت رحلتي على وشك البدء، كنت أفكر أن عالماً جديداً قد بدأ ينفتح أمامي. وكنت أرتدي قميص تي شيرت جديداً أميركي الطراز، وسروال جينز، وأنتعل حذائي الخفيف الجديد (السنيكرز). وهكذا فقد كنت قد بدأت أحاول تقليد أقراني الأميركيين. وكان في المطار خمسة وأربعون شاباً أذربيجانياً آخر سيسافرون معي على نفس الطائرة ضمن نفس برنامج تبادل الطلبة. ولم نتوقف عن الحديث عن الولايات التي ستستضيفنا، محاولين إثارة إعجاب بعضنا البعض بمزايا عائلاتنا المضيفة. وحين قال أحد الشباب أن والده المضيف مصرفي، أبدى الجميع إعجابهم وتقديرهم. وحين قال آخر إن عائلته المضيفة تسكن في هاواي، أثار الإعجاب هو أيضا. ولم يكن لدي الكثير لأفاخر أو أتبجح به، حيث أن عائلتي المضيفة كانت تسكن في أرياف ولاية أوريغون ولم تكن لدي أية فكرة عما قد تكون عليه تلك الولاية.

وعندما وصلت أوريغون، استقبلتني عائلتي المضيفة في المطار حاملة لافتة ترحيب باللغة الأذربيجانية. فسألت والدي المضيف من أين حصل على كلمات الترحيب تلك، فأجاب: "الإنترنت". وكانت تلك أول مرة أسمع فيها عن قوة الإنترنت. ولم يدر بخلدي آنذاك أن بقية حياتي ستعتمد إلى درجة كبيرة جداً على هذا الاختراع الرائع.

ثم توجهنا بالسيارة إلى المنزل وقررنا في الطريق التوقف عند مطعم ماكدونالدز لشراء شراب "الميلك شايك". وبدأ أخواي المضيفان يتشاجران على الفور للحصول على الحصة الأكبر. وكان ذلك، بالنسبة لي، بدء عملية محو الأفكار النمطية المكرسّة، إذ بدأت أدرك أن الأميركيين مثل الأذربيجانيين تماماً، أي أنهم أناس عاديون لديهم رغبات عادية ومشاكل عادية ولهم عاداتهم وسلوكهم.

وفي أول يوم كامل أمضيته في ذلك المكان الجديد الغريب، تعلمت غسل الصحون. فقد طلبت مني والدتي المضيفة أن أكون مسؤولاً عن الواجبات المنزلية يومين في الأسبوع، مثلي في ذلك تماماً مثل أخوي المضيفين. في أذربيجان، مهمة غسل الصحون محصورة في النساء، وعليه كانت هذه المهمة مُذلّه إلى حد ما بالنسبة لي. ولم أكن قد قمت بها في حياتي إطلاقاً قبلاً، لكن والدتي المضيفة أوضحت لي أنها سوف لن تُفرّق بين "أبنائها الثلاثة". ولكونها شملتني في تلك اللائحة فإن ذلك جعلني فخوراً، وكنت أرغب في الواقع في التفوق في ذلك الواجب المنزلي. وأصبحت أنا ووالدتي المضيفة نعجّل في ما بعد في إتمام الأعمال في المطبخ، وكثيراً ما كنا نقضي أوقاتاً معاً نتكلم فيها عن بلدي بينما نقوم بتقطيع الخضار لتحضير سلطة العشاء.  

وفي الأسبوع التالي تعلمت ان أغسل ثيابي في ماكينة الغسيل وأن أضعها في ماكينة التنشيف. ثم تعلمت كيف أقوم بالتسوق في السوبرماركت الكبير، وكتابة الرسائل وإرسالها من مكتب البريد، والتخطيط لميزانيتي الشهرية، وتنظيم لائحة واجباتي، وتسجيل نفسي في الحصص الدراسية... إلى غير ذلك في قائمة طويلة. ونتيجة لذلك أصبحت شخصاً يعتمد على نفسه، شخصاً مستقلاً وناضجاً ومنظماً في حياته. في المجتمعات التقليدية مثل أذربيجان، نادراً ما يتعلم الأبناء القيام بهذه الأمور بل يظلون معتمدين على أهلهم حتى يصبحوا في أواسط العمر.

وما زالت شخصيتي المعتمدة على النفس وهذه المجموعة المتكاملة من المهارات الجديدة  تساعدني في حياتي حتى اليوم. ومنذ عودتي إلى وطني، لم آخذ قرشاً (درهماً) واحداً من أهلي بل غطيت تكاليف إكمال دراستي الجامعية ثم دراساتي العليا بنفسي.

كما تعلمت أثناء وجودي في الولايات المتحدة ما يحتاج المرء إلى إتقانه ليكون ناشطاً مدنياً. وفي أذربيجان، تقوم الحكومة تقليدياً بجميع الأمور، وقلّما تتاح للمواطنين والشباب فرص إحداث تغييرات في مجتمعاتهم المحلية. أما في أوريغون، فقد رأيت كيف يقوم الطلاب بالتخطيط للمشاريع، وجمع التمويل، وتنظيم المباريات الرياضية، ومساعدة المجتمعات المحلية، وبرمجة رحلات الصفوف الدراسية، والاجتماع لتبادل الآراء واستنباط الأفكار. وقد انضممت إلى فريق جمع التمويل لرحلة أحد الصفوف الدراسية. وقد رحب بي الأعضاء الآخرون وأوضحوا لي كيفية الانخراط في العمل معهم. وشكلّت تلك التجربة شعوراً كبيراً بالمسؤولية لفتى من أذربيجان، لكنها كانت ممتعة في نفس الوقت. غسل السيارات، بيع المأكولات أثناء المباريات الرياضية، تصميم نشرة المدرسة الثانوية الإخبارية، التقاط الصور الفوتوغرافية، إجراء المقابلات الصحفية، التخطيط للرحلات...لقد صاغت هذه المهمات شخصيتي إلى حد كبير ومنحتني مهارات الإبداع وتحمل المسؤولية والعمل ضمن فريق.  

ومنذ عودتي، أصبحت هذه النشاطات المدنية جزأَ لا يتجزأ من حياتي، في كل ما قمت به، سواء رئاسة تحرير نشرة الجامعة الإخبارية، أو تنظيم نوادي المناظرات، أو العمل كداعية إلى الديمقراطية، أو كصحافي حرّ، أو كمؤسس لأكبر وأنجح جمعية خريجين جامعيين في أذربيجان www.aaa.org.az

أما رحلتي الثانية كطالب ضمن برنامج تبادل إلى الولايات المتحدة فقد جعلتني أفضل فهماً للنظام السياسي الأميركي وللأساليب المتاحة للانخراط فيه. كنت ملتحقاً في جامعة ويسليان في ولاية كونتيكت، حيث جعلني قربها من مدينتَي واشنطن ونيويورك أهتم بالسياسة المحلية والدولية. وأذكر تماماً أول رسالة كتبتها للرئيس كلينتون ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت أطلب فيها منهما دعم مشروع أنبوب النفط في بلادي. كما كتبت لعضو من ولاية كونتيكت في مجلس النواب في واشنطن لحثّه على دعم عملية إحلال السلام بين أذربيجان وأرمينيا. وأذكر جيداً مدى سعادتي  عندما أجاب عضو مجلس نواب كونتيكت سام غجدنسون على رسالتي.

وفي نهاية سنتي كطالب جامعي في برنامج تبادل، قررت الالتحاق ببرنامج تدريبي سياسي في واشنطن العاصمة، موطن النشاطات والمناظرات السياسية، وموئل جماعات الضغط لأصحاب المصالح والسياسيين. وقد علمتني فترة تدربي لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الطرق الأكثر فطنة وبراغماتية في طرح القضايا أمام المؤسسة السياسية في الولايات المتحدة.

وما زالت الدروس التي اكتسبتها خلال تلك السنة تفيدني اليوم. ففي أوائل عام 2007 عرضت علي وظيفة في وزارة خارجية أذريبيجان لإدارة برامج تدريب الدبلوماسيين المعّينين جديداً. وقد جاءني العرض نتيجة العلاقات التي أنشأتها مع سفارتنا في الولايات المتحدة خلال فترة تدربي في واشنطن.

وأنا أعمل اليوم لصياغة شكل، وتحسين، أذربيجان المستقلة الحديثة من  خلال عملي على المستويات القاعدية الشعبية وعبر المشاريع التعليمية. وما زالت الدروس التي تعلمتها خلال سنوات دراستي التبادلية في الولايات المتحدة تساعدني، فهناك دوماً مشاكل نواجهها في الحياة، وهناك دوماً حلول نجدها لهذه المشاكل. إن الفرص وفيرة لا حدّ لها، وعلى المرء أن يفتش دوماً عن فرص جديدة ونشاطات جديدة. إن الحياة قصيرة إلى درجة أنه لا يجوز هدرها. 

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي