التنوع | توفير حيز لنمو الجميع

03 حزيران/يونيو 2008

المناظر الطبيعية والعلوم في المنتزهات القومية الأميركية

 

ريتشارد وست سيلارز

لم يكن العلم المُعقد الذي يحكم العالم الطبيعي مفهوماً بشكل جيد عند إنشاء أول منتزهات قومية في الولايات المتحدة. وكانت تدير هذه المحميات الشاسعة من الأراضي العامة على مر السنين بيروقراطية لم تكن تفهم بالفعل نظامها الإيكولوجي. وقد  مرت عقود قبل أن تحتل هذه المبادئ مكانها الصحيح في أذهان حرّاس أثمن ثروات البلد.

ريتشارد وست سيلارز مؤرخ مُتقاعد في وكالة المنتزهات القومية ومؤلف كتاب تاريخ الحفاظ على الطبيعة في المنتزهات القومية (مطبعة جامعة ييل، 1997). وقد  كان رئيساً سابقاً لجمعية جورج رايت، وهي منظمة دولية للحفاظ على الطبيعة أُطلق عليها اسمها تكريماً لعالم الأحياء الذي أسس برامج الموارد الطبيعية العلمية في وكالة المنتزهات القومية.

عملت لأول مرة مؤرخاً لدى وكالة المنتزهات القومية عام 1973. وقد افترضت، كموظف جديد في هذه المؤسسة الجليلة، أن علماء البيولوجيا لدى هذه الوكالة يلعبون بالتأكيد دوراً رئيسياً في إدارة المنتزهات القومية الشهيرة مثل يلوستون، إفرغلايدز، وغرايت سموكي ماونتينز، وما توفره لنا من روائع التاريخ الطبيعي. وكنت متأكداً أن الاهتمامات الإيكولوجية تُشكِّل الاعتبار الأول عند اتخاذ قرارات تتعلق بالمنتزه. كم كنت ساذجاَ!

وبعد ذلك بفترة طويلة، في التسعينات من القرن الماضي، عندما عكفت على كتابة تاريخ إدارة الطبيعة في المنتزهات القومية لوكالة المنتزهات القومية، أدركت حجم الكفاح الذي كان على علماء الأحياء خوضه لتعزيز الإدارة السليمة من الوجهة الإيكولوجية. فقد حاربوا لعقود طويلة المحترفين المسيطرين الفعليين في وكالة المنتزهات القومية الذين كان اهتمامهم الأساسي ينصب على المحافظة على المناظر الطبيعية في المنتزه كوسيلة لجذب السياح.

ويمثل هذان المذهبان الفلسفيان المتباينان حول إدارة المنتزهات ما كان يُشكِّل دائماً المأزق المركزي في ما يتعلق بالمنتزهات القومية الأميركية: ما الذي يجب بالضبط المحافظة عليه في أي منتزه لفائدة الأجيال المقبلة؟ هل هي المناظر الطبيعية بالذات، المناظر الطبيعية الباهرة للغابات والمروج والجبال العالية والأزهار البرية والحيوانات الرائعة ؟ أو أنه أكثر من ذلك؟ هل هو الحفاظ على النظام الطبيعي الإجمالي في كل منتزه، بما في ذلك ليس أشهر المناظر الطبيعية والكائنات الحية التي تشكل النجوم التي تجذب السياح وإنما أيضاً المجموعة الكبيرة من الكائنات الحية الأقل إبهاراً كالأعشاب المختلفة وفطريات التربة؟

لقد دخل على خط هذه المعادلة خلال العقود الأخيرة اعتبار آخر: يُنظر بصورة متزايدة إلى المنتزهات على أنها ذات أهمية حيوية من الوجهة الإيكولوجية لكوكب الأرض، على أنها مهمة عالمياً، بطريقتها الخاصة، بمثل أهمية الغابة المطرية في الأمازون بطريقة هذه الغابة الخاصة.

ولكن جمال المنتزهات القومية المهيب يولد الانطباع بأن المناظر الطبيعية وحدها هي ما يجعلها جديرة بالاهتمام وتستحق الحماية. والحقيقة هي أن صيانة المشاهد الطبيعية كانت العامل الرئيسي في تأسيس المنتزهات القومية الأولى، يلوستون، في العام 1872، الذي تبعه منتزه سيكويا ومنتزه يوسميتي عام 1890. وكانت العناصر الطبيعية الأكثر أهمية بالنسبة لأفراد الشعب، بالإضافة إلى السمات السطحية الباهرة، هي عناصر الطبيعة الواضحة للعيان من غابات وأزهار برية لا الفأر والسمندل. ولم تكن العلوم الإيكولوجية (أو علم التبيؤ) مفهومة إلاّ بشكل طفيف في أواخر القرن التاسع عشر. ومع أنه تم شمل العديد من المجموعات الإيكولوجية ضمن حدود المنتزهات، إلا أن الفضل في ذلك يعود بدرجة كبيرة إلى الصدف نظراً لان هذه المجموعات كانت توجد في مناطق تم استثناؤها من الاستصلاح والتطوير للمحافظة على مناظرها الجميلة، أي على "الواجهة" الجميلة للطبيعة.

إدارة الواجهة: التركيز على المناظر الطبيعية

أنشأ الكونغرس الأميركي عام 1916 وكالة المنتزهات القومية لتنسيق إدارة نظام من المنتزهات القومية يتنامى باطراد. ونص القانون على صيانة المناظر الطبيعية والأشياء الطبيعية والحياة البرية، كما نص على تأمين استمتاع الناس بهذه المفاتن بطريقة تضمن "عدم إتلاف (المنتزهات) كي تتمتع بها الأجيال القادمة". وكان هدف هذا القانون غامضاً على الدوام، إذ إنه بارك الصيانة والاستعمال أيضا. ولكن في الممارسة الفعلية، على أرض الواقع، اقتصر تطبيق مبدأ "عدم إتلاف المنتزهات" تماماً تقريباً على المشاهد الطبيعية في المنتزهات وليس على العناصر الدقيقة التي تشكل الأنظمة البيئية وما يعيش فيها من كائنات والعلاقة بينهما.

وسعى المديرون الذين أشرفوا على المنتزهات في البداية ومن خلفوهم في عملهم، أثناء تطويرهم للمنتزهات بحيث يتمكن السياح من الوصول إلى المناظر الطبيعية الخلابة، إلى تحقيق التناغم البصري بين المنشآت الجديدة والمناظر الطبيعية. فطوروا مناطق للمخيمات وبنوا فنادق فخمة وشقوا الطرق في أراضي المنتزهات بحيث تمر في بمحاذاة المناظر الجميلة. وحدد المهندسون ومنسقو المناطق الطبيعية مواقع العديد من الفنادق والمتاحف والمرافق الأخرى التي أقيمت في السنوات الأولى عند أهم المشاهد والمواقع الرئيسية في المنتزهات، ولكنهم بنوا هذه المنشآت، في حالات كثيرة، وفق نمط هندسة معمارية ريفية مستعلمين كتلاً خشبية وأحجاراً ثقيلة كي تبدو الإنشاءات متكاملة مع المناظر الطبيعية. وبصورة مماثلة، صمموا الطرق والجسور بحيث يتناغم منظرها مع المحيط الطبيعي حولها.

وإذ كان مطورو المنتزهات في هذه الفترة المبكرة منشغلين بهذه العوامل البصرية، لم يظهروا  أي اهتمام تقريباً بالعمليات الإيكولوجية. إلاّ أنهم عارضوا بالفعل بعض أنواع اقتحام المنتزهات، كإنشاء سكك الحديد والسدود وخزانات المياه. كما حافظوا على الغابات والكائنات الحية الجذابة البرية، وعلى وجه الخصوص الثدييات الكبيرة الساحرة للجماهير. وهكذا، باستثناء مرافق السياح، تمت المحافظة على جبال ووديان المنتزهات دون مسها وتُركت الغابات تزدهر والمروج تغص بالنباتات.

لكن صيانة المناظر الطبيعية لم تتطلب أي مشاركة علمية تقريباً، ولذلك تسللت ممارسات إيكلولوجية غير سليمة في نفس الوقت: إدخال أنواع غريبة غير محلية من الكائنات الحية إلى المنتزهات؛ وكبح حرائق الغابات لمنع ظهور ندوب سوداء على المناظر الطبيعية الجميلة؛ والقضاء تماماً على أسود وذئاب الجبال التي كانت تفترس ثدييات أخرى؛ واستعمال مبيدات الحشرات لمنع غزو الحشرات المؤذية المحلية للغابات وإفسادها المشاهد الطبيعية الجميلة من خلال التهام أوراق الأشجار وتعريتها.

وهكذا أصبحت "إدارة الواجهة" هي الممارسة المقبولة، أي إدارة المنتزهات ذات المناظر الطبيعية الجميلة بحيث يتمتع الناس بها دون أي إدراك تقريباً للعواقب البيئية الإيكولوجية الناجمة عن ?لك. وقد بدا للمسؤولين أنه طالما لم يؤثر التطوير إلى حدٍ خطير على المناظر الطبيعية فإن ذلك يعني أنه تم التقيد بمبدأ "عدم إتلاف (المنتزهات) لتتمتع الأجيال القادمة بها" الذي فرضه الكونغرس.

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي