الصحة العالمية | التصدي لتحديات الصحة العالمية

17 ايلول/سبتمبر 2008

التهديد الثلاثي لإفريقيا الجنوبية

 

  جوردان دي

 

     يجعل وباء فيروس نقص المناعة المكتسب/الإيدز المزارعين في إفريقيا الجنوبية على درجة من المرض تحول دون تمكنهم من إنتاج الغذاء، فيما يقلص قدرة الحكومة على تقديم المساعدة. ويمكن للدول المانحة أن تزيد فاعلية الأدوية التي تقدمها بشكل كبير من خلال تقديم ما يكفي من الطعام للأسر المنكوبة.

     جوردان دي هو مدير العلاقات الأميركية في برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.

     تواجه إفريقيا الجنوبية، التي كانت لفترة طويلة سلة خبز إفريقيا وفي فترة أحدث واحدة من أكثر مناطق القارة استقراراً اقتصادياً وسياسيا،  تواجه الآن خطر تهديد ثلاثي: هجوم عنيف مشترك من فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز، وتراجع الأمن الغذائي، وتقلص قدرات الحكومات والمجتمع المدني. 

     يموت في العالم كل يوم 8 آلاف شخص نتيجة إصابتهم بفيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز، في حين تقع خمسة ملايين إصابة جديدة به سنويا. وهناك حوالى 40 مليون مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسب، ثلثاهم في الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء.

     وينشط برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في أنغولا وليسوتو ومدغشقر وملاوي وموزمبيق وناميبيا وسوازيلاند وزامبيا وزمبابوي. وتقف منطقة إفريقيا الجنوبية  في الخطوط الأمامية في المعركة العالمية ضد هذا المرض المدمر، إذ تضم تسعاً من الدول العشر التي تعاني من أعلى معدلات للإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب/الإيدز. وقد أعاد مرض الإيدز معدل طول الحياة المتوقع إلى مستويات القرون الوسطى – إلى منتصف الثلاثينات – في العديد من دول المنطقة. ووجه المرض ضربة شديدة إلى القطاع الإنتاجي، حيث حصد أرواح الكثير من الموظفين المدنيين الحكوميين والمعلمين والأطباء ورجال الأعمال والمزارعين – مما أضعف الحكومات والبنية التحتية المدنية والاجتماعية. وقد توفي ما يقّدر بثمانية ملايين مزارع متأثرين بمرض الإيدز خلال العقدين الماضيين في إفريقيا الجنوبية. وطبقا لتقرير حديث لمنظمة أوكسفام الدولية، تشير معدلات الوفيات الحالية إلى أن خمس القوة العاملة الزراعية في دول إفريقيا الجنوبية ستهلك من مرض الإيدز بحلول العام 2020.

     وخلّف ذلك وراءه في منطقة إفريقيا الجنوبية ما يقدّر بنحو 3.3 مليون من أيتام الإيدز. ويقول صندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة (اليونيسف) إن نسبة الأيتام بين مجمل عدد السكان ككل تزداد هناك بشكل أسرع من ازديادها في أي مكان آخر في العالم.

     ويشكل ارتفاع عدد الإصابات بفيروس نقص المناعة المكتسب/الإيدز المقترن بارتفاع في عدد الأيتام عبئا على المجتمعات والعائلات الموسعة، علاوة على تشكيله عبئاً على ميزانيات الحكومات المخصصة للرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والأمن الغذائي والتعليم. وتنطوي كل هذه الاتجاهات على مدلولات مثيرة للقلق في ما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي والسياسي في المدى البعيد. وفي هذه الأثناء، تم تقويض أمن العائلات الغذائي إلى حد كبير.

نقص الغذاء المتزايد

     حققت الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء تقدما كبيرا في الإنتاج الزراعي منذ العام 2002، حين كانت المنطقة برمتها على حافة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية التي شهدتها المنطقة عبر تاريخها، إذ كان أكثر من 14 مليون شخص في ست دول بحاجة إلى مساعدات طارئة. وتم تجنب خسائر خطيرة في الأرواح بفضل تنسيق غير مسبوق في الاستجابة الإنسانية وسخاء المانحين، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا واليابان وجنوب إفريقيا.

     وشهدت المنطقة بعد ذلك تقلصاً مطرداً في عدد الأشخاص المحتاجين للمعونات الغذائية، يعزى أساسا إلى تحسن المواسم الزراعية وكمية المحاصيل المجنية بفضل الأمطار الأكثر انتظاما وتوفر البذور والأسمدة على نطاق أوسع. إلا أن المواسم السيئة التي شهدتها مناطق كثيرة في العام 2007 – خاصة زمبابوي وسوازيلاند وموزمبيق – أخذت في زيادة أعداد المحتاجين للمعونات الغذائية الطارئة مجددا، والتقدير الحالي لعدد الأشخاص المحتاجين هو 4.4 ملايين شخص في المنطقة، مع أن تقريراً جديداً عن الأمن الغذائي في موزمبيق يشير إلى أن هذا العدد سيرتفع بمليوني شخص على الأقل بسبب المواسم السيئة والأزمة الاقتصادية المتفاقمة في تلك البلاد. ويساهم الجفاف والارتفاع في أسعار البذور والأسمدة والقدرة المتفاوتة على الوصول إلى الأسواق وسياسات الأراضي في زيادة حدة النقص الأخير في المواد الغذائية. كما يزيد من حدته أيضاً فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز.

     لقد حقق الزعماء السياسيون في دول إفريقيا الجنوبية، كما حقق الزعماء في بقية أنحاء العالم، تقدما لا يستهان به في محاربة فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز. وأصبحت يتم تناول المرض الآن علنا، مما وضع حداً لسنوات من الإنكار والخجل ووصمة العار التي كانت تلحق بالمصابين.

     ويعدّ تعهد حكومة الرئيس بوش بتقديم 15 بليون (مليار) دولار لمحاربة فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدزر في العالم النامي، وخاصة في إفريقيا، حدثا تاريخيا: فهو أضخم التزام لمكافحة تحدّ صحي عالمي تقطعه على نفسها أي حكومة في التاريخ. كما يقترح الرئيس بوش تمديداً لفترة خمس سنوات بضعف التمويل – 30 بليون دولار على مدى خمس سنوات اعتبارا من العام 2009. وقد ولّد هذا الالتزام الهائل من قبل الحكومة الأميركية استجابات مكملة عديدة – خاصة في مجال العقاقير الطبية – من الحكومات الإقليمية والقطاع الخاص، بما في ذلك شركات الأدوية، ومانحين آخرين.

     وقد بدأ توزيع الأدوية الطامسة للفيروسات (أو المضادة للانتكاس) في جميع دول إفريقيا الجنوبية تدريجا، بما في ذلك زيادة في التوزيع قدرها تسعة أضعاف في ملاوي – من 8، آلاف شخص في شهر كانون الثاني/يناير 2005 إلى أكثر من 70 ألف شخص في بداية العام 2007. إلا أنه ما زال أمام جميع دول إفريقيا الجنوبية طريق طويل يتعين عليها قطعه قبل أن تتمن من تلبية الاحتياجات، وما زال عدة ملايين من الأشخاص غير قادرين على الحصول على الأدوية المنقذة للحياة.

تعزيز فاعلية الأدوية

     يمكن للمانحين أن يعززوا على نحو كبير فاعلية استثمارهم البالغ عدة بلايين (مليارات) من الدولارات في معالجة مرض الإيدز باتباع وصفة نجاح بسيطة، ولكن كثيرا ما يتم إغفالها: تقديم الغذاء مع الدواء. وهي وصفة يدعمها برنامج الأمم المتحدة المشترك حول فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز ومنظمة الصحة العالمية، كما حظيت بدعم من خطة الرئيس الأميركي الطارئة للإغاثة من الإيدز والتي تعمل حالياً– على سبيل المثال – مع برنامج الغذاء العالمي في إثيوبيا للمساعدة في توفير الغذاء والفيتامينات الإضافية والنصائح الغذائية للأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب/الإيدز.

     والمنطق الكامن وراء ذلك بسيط: تأتي معظم الأدوية مع تعليمات لاستخدامها قبل أو بعد وجبات الطعام، وهو برنامج وضع لمناطق العالم الثرية، حيث نادراً ما يشكل الحصول على  وجبة الطعام التالية مصدرا للقلق.

      إلا أن الوضع مختلف في إفريقيا، حيث يعاني ثلث السكان من سوء التغذية ويعيش الفرد من هؤلاء على دولار واحد في اليوم، وحيث لا ينظر كثيرون من المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب إلى أمر الحصول حتى على وجبة طعام واحدة في اليوم على أنه أمر مسلّم به. ولا يكون للأدوية القوية التي تحافظ على الحياة نفس المفعول إطلاقاً على الأجسام الهزيلة والمعدات الخاوية.

     وقد أظهرت الأبحاث الميدانية أن توفير الغذاء الصحيح والتغذية الصحيحة في الوقت الصحيح يمكن أن يحدث فرقاً هائلاً، مساعداً على إبقاء الناس على قيد الحياة فترة أطول، وعلى إبقاء الأطفال في المدارس بعيدا عن الشوارع، ومساعداً الأسر في المحافظة على تماسكها. إنها فكرة بدأ الاقتناع بها أخيراً وتنفيذها.

     وكثيرا ما يروي بيتر بيوت، مدير برنامج الأمم المتحدة المشترك لنقص المناعة المكتسب/الإيدز ما حدث لدى لقائه مع مجموعة من النساء المصابات بنقص المناعة المكتسب  في ملاوي. ويقول: "كما أفعل دائما، سألتهن عن أولويتهن القصوى. وكان جوابهن واضحاً وإجماعيا: الطعام. لم يكن الرعاية أو الأدوية للعلاج، ولا الإغاثة من وصمة العار، بل الطعام".

     وليس ذلك بمفاجئ في القارة الإفريقية حيث يفتك مرض الإيدز بأضعاف عدد الذين تقضي عليهم الحروب. وتعاني إفريقيا، حيث يقوم برنامج الغذاء العالمي بنصف نشاطاته، بالفعل من أسوأ المشاكل في مجال الأمن الغذائي في العالم. وثمانية من كل عشرة مزارعين في إفريقيا هم من النساء، ومعظمهن يعتمدن على زراعة الكفاف، ونسبة انتشار نقص المناعة المكتسب/الإيدز بين النساء تفوق نسبة الانتشار بين عموم السكان.

مرض الإيدز والأسر

     كما أن الغذاء قضية ضخمة بالنسبة للأسر المصابة بمرض الإيدز، إذ يقوض إنتاج وأمن الغذاء على مستوى الأسرة.

     وتظهر الدراسات التي أجريت في إفريقيا وفي غيرها من الأماكن أن لمرض الإيدز آثارا مدمرة على الأسر الريفية. ويكون الأب عادة أول من يصاب بالمرض، وعندما يحدث ذلك قد تبيع الأسرة أدوات المزرعة والحيوانات للإنفاق على رعايته الصحية – مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الفقر المدقع السريع لأسر كانت فقيرة أساسا. وإذا أصيبت الأم أيضا بالمرض فإن الأطفال قد يواجهون مسؤوليات مروّعة من العمل في المزارع والعناية التامة بوالديهم وبأنفسهم أيضا.

     ومع توقف الملايين من المزارعين عن العمل تنخفض كمية المواد الغذائية المنتجة في البلد. كما أن إنتاجية المزارعين المصابين بالضعف من جراء الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب تتقلص ويصبحون أقل قدرة على كسب الدخل من الأعمال غير الزراعية. ومع انخفاض دخل المزارعين يصبحون غير قادرين على شراء الأسمدة وغيرها من لوازم الزراعة. ويزداد اضمحلال كمية الغلال نتيجة لذلك، فيدخلون دوامة مغلقة لا مخرج منها من السير من سيئ إلى أسوأ، حيث يبيعون ما يملكون من موارد وينزلقون نحو الفقر المدقع. ويتبع ذلك بسرعة تعرض أسرهم للجوع.

     وقد عانى ما يصل إلى 70 بالمئة من المزارع في منطقة إفريقيا الجنوبية من تقلص في اليد العاملة نتيجة إصابات بفيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز. ومع تأثر العمال الزراعيين بالمرض، يميلون إلى زرع مساحات أقل من الأرض واختيار المحاصيل التي لا تحتاج إلى كثير من الأيدي العاملة. وفي ملاوي، غيّر 26 بالمئة من الأسر التي تضم عضوا مصابا بالمرض مزيجهم المعتاد من المحاصيل، وترك 23 بالمئة منهم قسماً من الأرض دون زراعته. وفي زمبابوي، انخفض إنتاج الذرة بنسبة 67 بالمئة في الأسر التي نكبت بوفاة نتيجة الإصابة بمرض الإيدز.

رزم المساعدة

     يمكن للعقاقير المانعة للانتكاس (أنتيرتروفيال) تلطيف هذا الوضع الأليم، عندما توزع مرفقة بما يكفي من الطعام والمواد المغذية. وليس مرض الإيدز معركة يمكن للطب تحقيق الانتصار فيها بمفرده: هناك حاجة إلى رزم متكاملة من المعونة.

     ومن التكتيكات الواعدة في الحرب على مرض الإيدز وعدم الأمن الغذائي في منطقة إفريقيا الجنوبية برنامج يديره برنامج الغذاء العالمي وشريكته منظمة الأغذية والزراعة (فاو) يعرف باسم "حقل المزارع الصغير ومدارس الحياة"، الذي يطبق حاليا في ست دول. ويلتحق، ضمن هذا البرنامج، مئات الأيتام وغيرهم من الأطفال المعرضين للخطر ممن تتراوح أعمارهم ما بين 12 و17 سنة لمدة عام في الصفوف التي تعلمهم تقنيات زراعية تقليدية وعصرية، بالإضافة إلى مهارات حياتية أساسية. ويشمل ذلك أيضا توعيتهم بمرض فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز. ومع أن الافتقار إلى التمويل لم يسمح لهذه البرامج بالتوسع بصورة ملائمة، إلا أنها تشكل جزءاً من البنى الاجتماعية الأساسية الضرورية إذا كان لأفريقيا أن تقهر وباء يتوقع أن يحوّل عددا هائلا يبلغ 20 مليون طفل إلى أيتام بحلول العام 2010. 

     خذ مثلا قصة أحد المزارعين الأفارقة، بنيديكت، وهو أب لولدين مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسب. عندما التحق بنيديكت البالغ من العمر 46 عاما لأول مرة في برنامج أدوية تدعمه معونات غذائية من برنامج الغذاء العالمي، وصل محمولا على نقالة للمرضى للحصول على حصصه. وبعد فترة قصيرة من حصول بنيديكت على الأدوية والغذاء أصبح قادرا على الذهاب على دراجته الهوائية لاستلام أكياسه من الذرة والفول والفاصوليا الجافة. وقد عاد الآن إلى العمل في حقله. لقد أدى الغذاء والعلاج معا إلى وقوفه هو– وأسرته – على أقدامه مجددا.

     إن بنيديكت نموذج مبشر بالنجاح يمثل المجتمعات الأكثر معاناة من نقص المناعة المكتسب/ الإيدز وعدم الأمن الغذائي. فهو مثال حي على أنه يمكن للأشخاص الذين يعانون من فيروس نقص المناعة المكتسب/ الإيدز الوقوف مجدداً على أقدامهم ومواجهة هذا الوباء الفظيع إن هم تلقوا الدعم المنسق جيداً المشتمل على العقاقير والتغذية الجيدة. وسوف يؤدي ضمان اشتمال رزمة مكافحة الإيدز على الطعام والتغذية الجيدة إلى زيادة تأثير استثمار الحكومة الأميركية الضخم في مكافحة الإيدز في إفريقيا إلى أقصى حد ممكن. 

الآراء المعبر عنها في هذا المقال لا تعكس بالضرورة آراء أو سياسات الحكومة الأميركية.

 

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي