مواطنون لهم حرية التعبير | الديمقراطية في العالم

14 أيار/مايو 2008

الصحافة تنهض ثم تكبو في جمهورية جورجيا

 

بقلم كارل إيدزفوغ

لو كانت السياسة في العالم الحقيقي مثل الحكايات الخرافية ذات النهاية السعيدة، لكان سقوط حكومة قمعية وإحلال ديمقراطية محلها سيجلب معه صحافة تم تحريرها ومواطنين متمكنين وسكاناً مهيئين إلى حد أفضل بالمعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات القومية. ولكن عالمنا، عالم الواقع الذي نعيش فيه، ليس عالم الحكايات الخرافية.

أطاحت ثورة سلمية في جورجيا، الجمهورية السوفياتية السابقة، في العام 2003 بحكومة قمعية فاسدة. وخلال السنوات التي تلت ذلك لم يحقق هذا البلد القوقازي سوى تقدم متقطع  نحو نهاية سعيدة تدوم إلى آخر الأيام. وقد بادرت الحكومة الجديدة التي تسلمت السلطة، عقب ما أصبح يعرف بثورة الورود مباشرة،  إلى استهلال إصلاحات وبدء التواصل مع الغرب، لكن النزاعات الداخلية كانت تمزق تلك الحكومة. وخلال الأسابيع السابقة لطباعة هذه المجلة، واجهت الحكومة مظاهرات في الشوارع واتهامات بأنها أقامت تحالفاً مع روسيا. وقد رد الرئيس على ذلك بإعلان حالة الطوارئ في البلاد مما فرض إغلاق كافة منظمات الأخبار الخاصة، ودام هذا الوضع عدة أسابيع وقوبل بتنديد دولي.

وهكذا لم تتمتع وسائل الإعلام في جمهورية جورجيا بالحرية التي حصلت عليها وسائل الإعلام في الدول الأخرى التي تحققت فيها إصلاحات سياسية، ولم يتم بعد فهم سبب ذلك تماما. وقد قدم تقرير "حرية الصحافة 2007"،  الذي أصدرته مجموعة مناصرة الحرية التي لا تبغي الربح، فريدوم هاوس، هذا التقييم للبيئة الإعلامية:

"يكفل دستور جورجيا وقانون حرية الكلام والتعبير حرية التعبير، ولكن الحكومة قامت على امتداد العام 2006 بالحد بشكل متزايد من حرية الصحافة. ولم تكن القيود، إلا نادراً، على شكل ضغط مباشر، رغم وجود تقارير تحدثت عن قيام مسؤولين حكوميين بمضايقة صحفيين والاعتداء عليهم. ويواصل أصحاب ومديرو وسائل الإعلام ممارسة الضغط على الصحفيين في محاولة للمحافظة على علاقات ودية مع السلطة. ونتيجة لذلك، كثيراً ما يمارس الصحفيون الرقابة الذاتية."

وقد قام الصحفي التلفزيوني والأستاذ الجامعي الأميركي، كارل ايدزفوغ، برحلات متكررة إلى جورجيا بين العام 2002 والعام 2006 لتدريب الطلاب على الصحافة الإذاعية في كلية القوقاز للصحافة. وقد ظل ايدزفوغ، وهو أستاذ جامعي يعمل في كلية الصحافة والاتصالات الجماهيرية في جامعة كنت ستايت، في ولاية أوهايو، على اتصال بالصحفيين الجورجيين الذين وصفوا له خيبة أملهم من تأثير ثورة الورود على مهنتهم.

كانت جمهورية جورجيا في العام 2001، مكاناً صعباً جداً بالنسبة للصحفيين. 

وكانت هناك وسيلة أنباء واحدة لا غير لم تجفل ولم تتراجع، بل اتخذت موقفاً جريئاً لم تتخذه أي مؤسسة أنباء أخرى في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي. وكانت تلك المؤسسة الإعلامية المحطة التلفزيونية روستافي-2.

وكانت التقارير الإخبارية الجريئة تؤدي في العام 2001 إلى ردود فعل قاسية. فقد قتل جورجي سانايا، مقدم البرامج الإخبارية في المحطة التلفزيونية روستافي-2 البالغ من العمر 26 سنة. ويعتقد الكثيرون أنه قتل انتقاماً منه لتقاريره الإخبارية. وفي حين أن سانايا عارض سياسات وممارسات الرئيس إدوارد شيفرنادزه وطرح تساؤلات حولها إلا أنه لم يكن وحيداً في تحدي حكومة تبليسي.

فقد قال أكاكي غوغيتشايشفيلي، مقدم البرامج الإخبارية ومؤسس البرنامج الإخباري التحقيقي "60 دقيقة"، إن والده طُرد من وظيفته في الحكومة انتقاماً منه هو للريبورتاجات الإخبارية التي كان قد قدمها. وقال أكاكي إن كل فرد من العاملين في برنامج التحقيقات الإخبارية تلقى تهديدات. وقال المراسلون إنهم كثيراً ما كانوا يرفعون سماعة الهاتف فلا يسمع الواحد منهم سوى صوت يقول"سوف تموت غداً"، أو "سوف نغتصب أهلك."

ولم يعد تهديد المراسلين أنفسهم وحدهم كافياً في العام 2001. فقد تلقى مدير قسم الأنباء ومقدم البرامج الإخبارية الرئيسي في محطة روستافي-2، نيك تاباتادزه، مكالمة تهدد المحطة بأكملها. وقال تاباتادزه إن وزير الداخلية في جمهورية جورجيا هدد بإرسال قوات عسكرية إلى المحطة لتفتيشها شبراً شبراً وعدم إبقاء شيء في مكانه. ورد تاباتادزه على ذلك بإذاعة نبأ التهديد في الأخبار المسائية تلك الليلة. وفي الأسبوع التالي، ردت الحكومة بقوة. وفي هذه المرة، أرسلت وزارة الأمن ضباطاً طلبوا سجلات المحطة المالية. ومرة أخرى رد تاباتادزه بنشر ما حصل؛ ولكنه نشر النبأ هذه المرة عن طريق البث المباشر. فقد أمر مصوريه بإعداد الكاميرات وبدء التصوير، وما هي إلا دقائق حتى كانت محطة روستافي-2 تبث أحداث الاقتحام الحكومي لمكتب التحرير إلى كل جهاز تلفزيوني في جورجيا. وقام المواطنون، لإظهار دعمهم لمحطة روستافي-2، بالاحتشاد أمام مبنى المحطة حيث أمضوا الليل بكامله؛ وفي اليوم التالي ساروا في مظاهرة إلى البرلمان.

كانت تلك فترة خطيرة ولكنها منشطة لكل صحفي يعمل في جورجيا.

ثم حصلت ثورة الورود. تنحى شفرنادزه عن الحكم وتولى المنصب زعيم مؤيد للديمقراطية هو ميخائيل ساكشفيلي. لكن الصحفيين العاملين في جورجيا يقولون إن وسائل الإعلام لم تحصل على أي من الفوائد التي جلبتها ثورة الورود.

اتباع الخط السياسي الحزبي

أغلقت محطتان تلفزيونيتان هما القناة 9، التي دأبت على محاولة تقديم الأخبار الموثوقة بتجرد دون مواربة، ومحطة إيبيريا أبوابهما. وتغيرت الإدارة في محطة روستافي وتغير معها النهج المعتمد في الأخبار. 

وقد غادرت ناتيا أبراميا جورجيا في هذا الأثناء، ولكنها كانت قد أمضت ثماني سنوات تكتب التقارير الإخبارية كما عملت لدى محطة روستافي-2 قبل الثورة وبعدها. وتذكر أبراميا أنه رغم جو التهديد الذي ساد خلال حكم شفرنادزه، كان هناك قدر لا يستهان به من الحرية الإعلامية.  وقالت: "لم تكن وسائل الإعلام محترفة ومسؤولة ولكنها كانت حرة."

وأضافت أن ما حدث  بعد ثورة الورود هو أن الجميع بدأوا يتحدثون عن "الرقابة الذاتية". وأصبحت الآن محطة روستافي-2، المحطة التي كانت قد تحدت بشجاعة في يوم ما المسؤولين الحكوميين مطالبة إياهم بتفسير تصرفاتهم، تتصل هاتفياً بالمسؤولين الحكوميين لطلب مشورتهم حول ما ينبغي عليها قوله. وقالت أبراميا: "لقد رأيت بنفسي كيف كان الصحفيون يقرأون تقاريرهم الإخبارية للمسؤولين الحكوميين عبر الهاتف." وأضافت أن الصحفي الذي كان يحيد عن الخط الرسمي كان يواجه "مشاكل."

وقد وصف صحفي محترف،  لم يرغب في الكشف عن هويته لأنه بحاجة إلى وظيفته في روستافي-2، البيئة التي يعمل فيها الصحفيون بكلمة واحدة: "مُذلّة".

وقد بدت عملية التحرير التي يصفها كشيء يعود مباشرة إلى العصر السوفياتي. فقد قال: "لا يسمح لنا بانتقاد الرئيس، أو وزير الاقتصاد، أو وزير الدفاع، أو وزير الداخلية. وعلينا أن نغطي فقط الأنباء الجيدة عن هذه الهيكليات الحكومية."

وقال صحفي مخضرم آخر كان مخرجاً ومحرراً ومصور فيديو كذلك، ترك عمله في قسم الأخبارر ولكنه على اتصال مستمر بالصحفيين والمراسلين في جميع محطات التلفزيون في تبليسي، قال بحزن، "كان ينبغي ألاّ يكون الوضع على هو عليه الآن". وقد طلب هو أيضاً، لأسباب تتعلق بعمله، عدم ذكر اسمه. وعندما طُلب منه أن يقارن بين وضع الصحافة  في جورجيا الآن وما كان عليه قبل ثورة الورود،  قال ببساطة، "إنه أسوأ".

وقد وافقته تانيا أبراميا على رأيه وقالت "يواجه الصحفيون المحليون خطراً متزايداً لدى قيامهم بالتحقيق أو طرح الأسئلة أو انتقاد الحكومة."

محاولة إحداث تغيير

كانت الصحفية نينو زورياشفيلي، والمحرر ومصور الفيديو، ألكس كفاتاشيدزه، ينتجان بعض أكثر التحقيقات شمولاً وتعمقاً في محطة روستافي-2. لكن زورياشفيلي تصف الآن المحطة التي كانت تتخذ في الماضي مواقف صحفية جريئة لا تلين بأنها "لا أكثر من صوت يردد آراء الحكومة".

كما أنها لا تعتقد أن جورجيا سوف تستفيد مشركة تلفزيون إم زد إي  (MZE) التي اشتراها شقيق وزير الخارجية. وقد قامت زورياشفيلي وكفاتاشيدزه في كانون الثاني/يناير، 2007، لشعورهما بالإحباط نتيجة تدهور الصحافة الجادة منذ ثورة الورود، بإنشاء شركتهما الخاصة لإنتاج التحقيقات التلفزيونية، وتدعى مونيتور استوديو، بتمويل من المفوضية الأوروبية. ولم يشكل العثور على قصص إخبارية جدية موثوقة مشكلة صعبة ولكن العثور على جهة مستعدة لبثها كان مشكلة عويصة.

فقد وصلتهما معلومة سرية تفيد بأن مواطنين بريئين تعرضا للسجن والتعذيب وأُدينا بناء على دليل ملفق دسه عملاء أمن حكوميون بناء على تعليمات مسؤول كبير في الحكومة.

ولم يكن فريق التحقيق الإخباري الوحيد الذي حقق في الوقائع وتثبت من صحتها؛ فقد تثبت من صحتها كذلك الموظف الحكومي الذي يحقق في شكاوى المواطنين (مأمور المظالم)، أو المحامي العام في جمهورية جورجيا.

 وقد عقد سوزار سوباري مؤتمراً صحفياً ليعلن فيه النتائج التي توصل إليها. وكان مؤتمراً صحفياً لا يختلف عن المؤتمرات المألوفة وقد استعدت وسائل الإعلام له وكانت ميكروفونات جميع محطات البث بالراديو والتلفزيون موجودة في المؤتمر. وقال أليكس كفاتاشيدزه أن "المفاجأة" كانت عدم احتواء نشرات الأنباء المسائية في تلك الليلة "على أي ذكر لذلك." وهكذا لم تقم نشرات الأخبار التلفزيونية بذكر النتائج السلبية التي تم التوصل إليها رغم أن المصدر الذي أعلنها كان مصدراً حكوميا.

ونظمت زورياشفيلي وكفاتاشيدزه عرضاً خاصاً لتحقيقهما، ودعيا إليه مسؤولين في سفارات، ورؤساء منظمات غير حكومية، وصحفيين، ومدراء الأخبار في كل وسيلة إعلامية رئيسية في تبليسي، عاصمة جورجيا، ومقر عمل شركات الإعلام الرئيسية فيها. وقدم الفريق تحقيقه مجاناً إلى أي مؤسسة إعلامية ترغب في الحصول عليه. ولم توافق أي محطة في تبليسي على بث التقرير.

ولكن، حتى عندما ترفض المحطات بث الأنباء، تجعل التكنولوجيا من المستحيل تقريباً لأي حكومة أو شركة أن تتحكم بالاتصالات. ولربما تحولت محطة روستافي-2، كما يقول منتقدوها، إلى صوت يكرر آراء الحكومة. ولكن التكنولوجيا تتيح للصحفيين القيام بما  كان الصحفيون يقومون به دائماً: إبلاغ الناس القصص الإخبارية الحقيقية الوجيهة. 

وهذا المزيج من التكنولوجيا والمثابرة الصحفية هو ما يبقي كفاتاشيدزه متفائلا. فهو يقول، "ما زلنا نحن (وآخرون مثلنا) نحاول إيصال الرسالة إلى الناس." ويضيف بكل ثقة: "إن الصحافة لم تمت في جورجيا."

تحقيق مونيتور استديو حول سجن اثنين من مواطني جورجيا دون ارتكابهما أي ذنب متوفر على موقع الإنترنت http://tinyurl.com/2rpo3g..

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة وجهات نظر أو سياسات الحكومة الأميركية.

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي