مواطنون لهم حرية التعبير | الديمقراطية في العالم

24 أيار/مايو 2008

الخصــــوصــــية الفردية

 

لا يجوز انتهاك حق الناس في أن يكونوا آمنين في ذاتهم، وبيوتهم، وأوراقهم، وأغراضهم، ضد التفتيش والاحتجاز غير المعقول...

- التعديل الرابع لدستور الولايات المتحدة.

إن تعداد بعض الحقوق في الدستور لا ينبغي أن يفسر على أنه

إنكار أو إنقاص للحقوق الأخرى التي يحتفظ بها الناس.

- التعديل التاسع لدستور الولايات المتحدة.

لا يحق للولايات المتحدة أو لأي ولاية أخرى أن تَنكر أو تَختصر امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتحدة، كما لا يجوز لأي ولاية أن تحرم إنسان من الحياة، أو الحرية، أو الممتلكات دون تطبيق الإجراءات القانونية...

- التعديل الرابع عشر لدستور الولايات المتحدة.

لا تكون الحقوق، التي كثيراً ما تُعتبر بأنها مطلقة، أبداً جامدة أو غير متغيرة. فحرية التعبير تعني أن للناس الحق، في الأكثر، بقول ما يفكرون به، لكن الوسائل التي يستخدمونها لذلك، والفرص التي قد تكون لديهم للتعبير عن أفكارهم، تتغير مع الوقت، وبالتالي فإن طبيعة هذا الحق تتغير أيضاً. فالتطورات التكنولوجية وكذلك التطور الاجتماعي والثقافي، يمكن أن تؤثر على كيفية نظرتنا إلى حقوق معينة، كما أن تلك التغيرات قد تُحدِّد أيضاً كيفية تعريف تلك الحقوق. وليس من مثال قائم عن ذلك أفضل من مثال الحق في الخصوصية، وهو حق لم يأت على ذكره الدستور، لكنه، مع هذا، حق منحته المحاكم والناس وضعاً دستورياً.

*     *     *     *     *

السير وليام بيت، إيرل أوف تشاتام،

حول حق المواطن الإنكليزي في أن يكون آمناً في بيته

1763

بإمكان أفقر إنسان في كوخه أن يعلن أنه يتحدّى جميع قوات التاج. فقد يكون منزله ضعيف البنية، وقد يتمايل سقفه، وقد يعصف الهواء من خلاله، وقد تدخله العواصف، وقد تدخله الأمطار، لكن ملك إنكلترا لا يستطيع دخوله؛ فكل قواته لا تجرؤ على اجتياز عتبة هذا المسكن المتهدّم.

يُلخّص تعليق بيتّ الشهير ما كان يعتبره الكثير من الناس، لزمن غير بعيد، جوهر الخصوصية، وهو الحق بأن يُترك المرء وشأنه داخل منزله، آمناً من سلطات الحكومة. في أميركا، يُثبّت التعديل الرابع للدستور الأميركي الفكرة القائلة إن للناس الحق في أن يكونوا آمنين في بيوتهم، وهي فكرة عززّها الأمر الوارد في التعديل الثالث بأنه لا يجوز أن يقيم الجنود في المنازل الخاصة.

إن فكرة الخصوصية، بصفتها بمثابة حماية من التفتيش المتطفّل، ومنع عرض سلوك الأفراد الخاص أو أعمالهم أمام الجمهور لكي يراها الناس ويعلّقون عليها، هي اختراع العصر الصناعي. ففي الأزمنة القديمة، ولغاية القرن الثامن عشر، لم تكن الخصوصية بمعنى التوحّد، أي العزلة أو الانعزال في مكان خاص بالإنسان بمفرده، معروفة إلا بالنسبة للأثرياء ولطبقة النبلاء. كان معظم الناس يعيشون في بيوت صغيرة، خالية من الأثاث، وكان أفراد العائلة بكاملها ينامون معاً في غرفة واحدة في أحيان كثيرة. والواقع أن الاعتداء على "الخصوصية" كمفهوم قانوني كان يشير أصلاً إلى ارتكاب نوع من التشهير أو الانتحال لاسم فرد ما أو صورته دون إذن منه.

لكن بعد أن أصبح المجتمع الغربي أكثر ازدهاراً، ونمت الطبقة الوسطى، إضافةً إلى الإمكانات التي تخوّلها شراء منازل أوسع بحيث يستطيع أفراد العائلة الحصول على مساحات منفصلة خاصة بهم، تغيّر أيضاً معنى الخصوصية. فقد أصبحت المسألة الآن بمثابة الفردية الخاصة، حيث يَفترض الناس أن ما يفعلونه خارج ساحة الحياة العامة لا شأن لأحد به باستثنائهم هم. فليس للحكومة، أو لوسائل الإعلام، أو لأي فرد آخر بالواقع أي شأن في معرفة خصائص حياتهم الخاصة.

فالخصوصية، بمعناها الحديث، لها صلة قوية بالشخصية الفردية، وهي حق الفرد وليست حق المجموعة أو المجتمع. فقد كتبت رودا هوارد، العالمة السياسية، "من دون خصوصية لا يستطيع المرء تطوير الشعور بالفرد البشري كمخلوق له قيمة في ذاته، بغض النظر عن دوره أو دورها الاجتماعي". والعكس صحيح أيضاً: فبدون شعور بالشخصية الفردية، لا يمكن أن يكون هناك إدراك للحاجة إلى خصوصية.

الخصوصية، مثلها مثل الحقوق الأخرى، متصلة مباشرة بالديمقراطية. فالمخلوقات البشرية بحاجة للتحدث وللتفاعل مع الآخرين، كما هي بحاجة إلى وقت ومساحة لنفسها. فالخصوصية ليست الانعزال أو النفي، وإنما هي رغبة في اختيار ذاتي لأن يكون الإنسان وحيداً أو مع أفراد قلائل من اختياره. فالاحتجاز المنفرد في سجن، مثلاً، لا يعتبر خصوصية، بل إن التنزه وحيداً أو مع صديق في الجبال قد يدّل على ما نعنيه بتلك العبارة. ففي الانفراد أو الوحدة نستطيع التمعّن بأفكار بعيداً عن ضغوط الحكومة أو السوق. وقد فهم جورج أورويل تماماً العلاقة بين الحرية والخصوصية عندما ألغى، في روايته الكلاسيكية حول التوتاليتارية، عنوانها "1984"، الخصوصية واستبدلها بعين الحكومة الحاضرة في كل مكان والتي ترى كل شيء.

صحيح أن الخصوصية لم تذكر بصراحة في الدستور لكن من الواضح أن جيل المؤسسين كان يعرف ويقدر هذا المفهوم. فقبل الثورة بسنوات قليلة، مثلاً، سنّت ولاية مساتشوستس ضريبة على الاستهلاك والإنتاج تتطلب من أصحاب المنازل أن يبلغوا جباة الضرائب كم هي كمية مشروب الروم التي استهلكت في منازلهم خلال السنة الفائتة. احتج الناس فوراً على أساس أن بيت الإنسان هو قلعته، وأن ما يفعله داخله ليس للحكومة دخل فيه.

كُتيّب الاحتجاج على ضريبة الاستهلاك والإنتاج في ولاية مساتشوستس 1754

إنه لمن المهم جداً بالنسبة للدستور الإنكليزي أن يكون الإنسان آمناً في بيته الخاص؛ فبيته الخاص يُسمى عامة قلعته، الذي لا يسمح القانون حتى لمفوض الشرطة دخوله سوى بموافقته هو، إلا للتحقيق في قضية جنائية.

يمكن العثور على فكرة الخصوصية في فلسفة جون لوك السياسية كما وفي فلسفة توماس جفرسون وغيره من الآباء المؤسسين. تمتدح "الأوراق الفدرالية" رقم 10 ورقم 51، فكرة الخصوصية، وتشير إلى أن الحرية التي يتضّمنها الدستور هي التحرر من الحكومة. ومهما اتخذت من معانٍ أخرى، فإن التعديل الرابع يحمي خصوصية الفرد بوضوح في بيته ضد التدخل الحكومي غير المُبرّر. أما عدم ذكر الخصوصية بالاسم، فإنها، مثلها مثل غيرها في الحقوق، ليست الحق الوحيد المحمي ضمناً بدلاً من ذكره صراحة. وقد أشار ماديسون، في التعديل التاسع، بهدف التأكد من أن الناس لم يخطئوا الفهم، إلى ان تعداد أو ذكر بعض الحقوق لا يعني بأي حال أن الناس قد تخلوا عن الحقوق الأخرى التي لم تذكر.

*     *     *     *     *

لو قام أحد، لغاية أواسط القرن التاسع عشر، بسؤال الأميركي العادي ماذا تعني الخصوصية، لكان الجواب تركز بكل تأكيد، على عدم انتهاك حرمة البيت. بعد الحرب الأهلية، استوعبت البلاد ملايين المهاجرين في المدن مما جعل ظروف الحياة أكثر اكتظاظاً وازدحاماً. فللفسحة الواسعة في المدن الحديثة قيمة عالية، وفكرة الخصوصية بدأت تتغير مع تغير الظروف المعيشية. كما هددت التكنولوجيا الخصوصية بحيث سمح الهاتف للناس بدخول بيوت الآخرين دون الذهاب إليها. كان المرء بحاجة في السابق إلى الذهاب إلى بيت شخص آخر ليتواجد هناك جسدياً، ليقوم بالتحدث معه؛ أما الآن، فلا يحتاج إلاّ إلى مجرّد الاتصال به هاتفياً. الاختراعات التكنولوجية الأخرى مثل آلات التصوير الرخيصة، وزجاج الشبابيك الزهيد الثمن، سمحت للناس بمشاهدة ما في داخل بيوت الآخرين والتطفل بمراقبة شؤونهم.

جاء التهديد الأكبر للخصوصية في أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور الصحف اليومية التي اكتشف ناشروها أن الطبقات الأفقر تحب القراءة عن الحياة الاجتماعية للأغنياء والمشاهير. فإنجازات هؤلاء لم تعد وحدها التي تطرح أمام الجمهور، بل أصبح بإمكان الوسائل الإعلامية الواسعة الانتشار الجديدة، بعرضها نقاط الضعف الخاصة للمشاهير، تخريب سمعتهم. وهكذا، وفي بداية الأمر، تعاطى قانون الخصوصية أولاً مع السمعة واستُخدم القانون لمنع الفضوليين والمراسلين من عرض المظاهر الخاصة لحياة إنسان في العلن بطريقة مهينة.

هذا التهديد للسمعة هو الذي دفع محاميين شابين من بوسطن، صامويل د. وارن ولويس د. برانديز، إلى كتابة مقال سنة 1890 طالبا فيه بإلحاح توسيع نطاق التحريم الذي ينص عليه القانون العام غير المكتوب الخاص بالتعدي على الخصوصية، لكي يشمل الأشكال الجديدة التي ولدّتها الثورة الصناعية. وعلى الرغم من أن فقهاء القانون وغيرهم ناقشوا الاقتراح، لم يحدث شيء يذكر في حينه. فقد كان الأميركيون في طور التعوّد ببطء على الفوارق التي أحدثتها التكنولوجيا في حياتهم ولم يكونوا قد أدركوا بعد إلى أي حدّ تسمح هذه التكنولوجيا باقتحام الحياة الخاصة الحديثة.

لكن مع بداية العشرينات من القرن العشرين، بدأت المحكمة العليا التفكير بإثبات حق دستوري بالخصوصية، وإذا كان يبدو اليوم أن المسائل المعنية بهذا الأمر بعيدة نوعاً ما عن الهواجس الحالية، لكن قرارات المحكمة أرست الأسس للتعريف الدستوري الحالي للخصوصية. ففي إحدى القضايا، عاقبت المحكمة العليا عناصر الشرطة الفدراليين لمصادرتهم أوراقاً خاصة دون مذكرة تفتيش ملائمة. قال القاضي وليام د. داي أنه إذا كان يحق للشرطة أن تتصرف هكذا مع مواطن "فمن الأفضل أيضاً حذف حماية التعديل الرابع الذي يؤكد حقه في أن يكون آمناً (في بيته) من الدستور."

علاوة على التعديل الرابع، تُوفّر فقرة الإجراءات القانونية المنصوص عنها في نص التعديل الرابع عشر، قاعدة قانونية إضافية لمبدأ الخصوصية. فبموجب التفسير الذي أعطته المحكمة، لا تشير متطلبات "الإجراءات القانونية" إلى الحقوق الإجرائية المتزامنة بصورة مبدئية مع القضايا الجنائية وحسب، بل تشتمل أيضاً على حقوق "جوهرية" أو موضوعية لها علاقة بالحرية الفردية. وهكذا، في قضية تم بموجبها إلغاء قانون لإحدى الولايات يُحظر تعليم اللغات الأجنبية، قرّر القاضي جيمس س. ماك رينولدز، أن تلك الحرية "ليست مجردّ التحرر من القيود الجسدية بل هي أيضاً حق الفرد في التعاقد وفي ممارسة أي عمل من الأعمال العادية، وأن يتزوج، ويؤسس بيتاً، ويربي أطفالاً، ويعبد الله حسب ما يمليه عليه ضميره، وبصورة عامة، أن يستمتع بتلك الامتيازات التي يعترف بها القانون العام كحقوق لازمة للسعي المنتظم لسعادة الأفراد الأحرار". فالمسائل التي سردها ماك رينولدز هي في الأساس مسائل خاصة، أي الزواج، وتربية الأطفال، والضمير.

جاء البيان الأبعد مجالاً في قضية ولّدتها تكنولوجيا الهاتف الجديدة. فقد عَمِدت الشرطة إلى التنصّت، عبر خطوط الهاتف، على مكالمات أفراد كانت تشتبه بقيامهم بنشاطات إجرامية. وعندما زعم الأشخاص المتهمون أن التنصت عبر خطوط الهاتف هو اعتداء على حقهم الوارد في التعديل الرابع بأن يكونوا أحراراً من التفتيش دون مذكرة رسمية، قالت أكثرية المحكمة إن الخط الهاتفي كان يتواجد مادياً خارج المبنى، وإنه لم يجر بالتالي أي تفتيش فعلي للمنزل.

عارض ذلك بعض أعضاء المحكمة، وعلى الرغم من أن القاضي لويس د. برانديز، وهو نفس الرجل الذي شارك قبل 35 سنة في كتابة ذلك المقال الجوهري حول الخصوصية، كتب معارضاً، إلا أن وجهات نظره حول الخصوصية بصورة عامة، وحول التنصت عبر خطوط الهاتف بشكل خاص، هي التي سادت.

القاضي لويس د. برانديز،

معارضاً في قضية  أولمستيد ضد الولايات المتحدة

1928

عندما يجري التنصّت على خط هاتف، تكون خصوصية الأشخاص عند طرفي الخط قد تعرضّت للاعتداء، كما تصبح جميع المكالمات بين الطرفين، حول أي موضوع، رغم كونها لائقة سلوكياً، وخاصة، وسرية، وتتمتع بالحصانة، عرضةً لاستراق السمع إليها…

تولّى واضعو دستورنا تأمين الظروف الملائمة للسعي إلى السعادة. وقد أدركوا أهمية طبيعة الإنسان الروحية، ومشاعره، وعقله. كانوا يعلمون أن جزءاً فقط من الألم، واللذة، والشعور بالرضى في الحياة يلقاه الإنسان في الأمور المادية. لقد سعوا إلى حماية الأميركيين في معتقداتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم. ومنحوا، خلافاً للحكومة، الحق للمرء في أن يُترك لشأنه، وهو الحق الأشمل من بين الحقوق، والذي يحظى بأكبر درجة من التقدير من جانب البشر المتمدنين. ويجب، لأجل حماية هذا الحق، اعتبار كل تدخل غير مُبّرر من الحكومة في خصوصية الفرد، أيا كانت الوسائل المستخدمة، انتهاكاً للتعديل الرابع للدستور.

اعتبر برانديز أن عدم استخدام واضعي التعديل الرابع لعبارة "الخصوصية" تحديداً لا دخل له بالموضوع مطلقاً، وكذلك الأمر بالنسبة لعدم ذكرهم للتنصت عبر خطوط الهاتف. فكيف كان يمكن أن يذكروا ذلك طالما أن الهاتف لم يكن قد اختُرع بعد!  فالذي سعى إليه هو وسواه لم يكن المعنى الحرفي للكلمات بل ما قصده المؤسسون، أي أن على الحكومة أن تترك الناس لشأنهم. فالطريقة التي يتم بها التدخل ليست مهمة؛ بل واقع التدخل هو الذي يهم.

وفي نهاية المطاف، انتصرت وجهات نظر برانديز، وفي الستينات من القرن الماضي، حكمت المحكمة أن التنصّت عبر خطوط الهاتف ينتهك حق الخصوصية المحمي دستورياً. فالتعديل الرابع يحمي الناس وليس المكان، كما شرح القاضي بوتر ستيوارت. وإذا كانت لدى الناس احتياجات مشروعة للخصوصية، كتلك التي تكون لهم في بيوتهم، فإن بوسعهم الاحتكام للحماية الدستورية لتأمين تلك الخصوصية.

أطلقت التغييرات، التي حدثت في نوع آخر من التكنولوجيا، القضية الطليعية المتعلقة بالخصوصية في أواسط الستينات من القرن الماضي، وهي القضية الأساس لجميع المناقشات الحديثة حول الخصوصية. في القرن التاسع عشر، نجح القائمون بالحملات الأخلاقية في تمرير قوانين في ولاية كوناتيكت تحظر استخدام وسائل منع الحمل أو نشر المعلومات بشأنها. ومع أن معظم الناس في الستينات من القرن الماضي تجاهلوا هذه القوانين فقد ظلت سارية المفعول، وكانت عيادات تنظيم الأسرة قلقة من إمكانية قيام المحافظين الاجتماعيين يوماً ما بالاستشهاد فيها. وهذا تماماً ما حصل عندما أقنعت مجموعة من معارضي منع الحمل حكومة كوناتيكت بمقاضاة عيادة طبية، تديرها جمعية الأبوة المنظمة، كانت توزع معلومات حول تحديد النسل وكذلك الوسائل المستخدمة لهذه الغاية.

لقد تردّدت المحكمة العليا، لغاية سنة 1965، في استخدام الفقرة المتعلقة بضرورة اتباع الإجراءات القانونية في التعديل الرابع عشر، ذلك أن استخدام الإجراءات القانونية ظل محدوداً إثر أزمة المحاكم في الثلاثينات من القرن الماضي عندما كانت إدارة الرئيس روزفلت تهاجم المحكمة لاستخدامها الخلل في الإجراءات القانونية كذريعة لإبطال تشريعات لا تُحبذها. لم يكن التعديل الرابع، علاوة على ذلك، مناسباً في هذه الحالة لأن الغاية من دعوى الحكومة لم يستهدف بيتاً خاصاً  بل عيادة عامة. رغم هذا، طرحت المحكمة  في  دعوى غريسوولد ضد كوناتيكت (1965) السؤال التالي: هل يريد الناس أن تتدخل الولاية في قرارات خاصة حميمة حول تنظيم الأسرة؟  كان الجواب الصريح كلا، لأن ذلك كان شأناً خاصاً، وقراراً خاصاً ليس للولاية أن تتدخل فيه. ففي إلغائه لقانون الولاية وتأييده لحق العيادة في توزيع المعلومات عن تحديد النسل، أعلن القاضي دوغلاس أن حق الخصوصية، حتى وإن كان لم يُذكر مباشرة، يتمتع بالحماية الدستورية التي أعلنها القاضي برانديز قبل جيل من الزمن. فقد أعلن برانديز أن "الضمانات المحدّدة في قانون الحقوق لها نوع من الظلال تتشكل من تفرعات تلك الضمانات وتساعد في إعطائها الحياة والأهمية …   والضمانات المختلفة تخلق مساحات مُعيّنة من الخصوصية". وفي حين كان رأي دوغلاس هذا خلاّقاً، إلا أنه لم يعالج مباشرة المفهوم الدستوري الهام لتطبيق الإجراءات القانونية المناسبة. لكن المحكمة عادت وتبنّت، بعد سنوات قليلة، وعبر العديد من القضايا الأخرى، فكرة المصالح المترابطة مع الحرية في فقرة الإجراءات القانونية بصفتها الأساس الدستوري لحق الخصوصية.

في أعقاب القرار الصادر في قضية غريسوولد، والقائل إن المعلومات حول تحديد النسل، وقرار ما إذا كان يمكن استخدامه تُشكل مسألة خاصة، وسّعت المحكمة بعد سنوات قليلة، في قضية تتعلق بحق امرأة في الإجهاض، مساحة الحق في التمتع بالخصوصية. كان قرار المحكمة في قضية رو ضد وايد (1973) أكثر القرارات المثيرة للجدل طيلة قرن ونصف، ويعتقد معارضو الإجهاض أن المح?مة أساءت تفسير الدستور؛ أما المدافعون عن حرية الخيار (في الإجهاض)، فقد قالوا إن موقف المحكمة المؤيد للإجهاض في تلك القضية كان توسيعاً منطقياً لمفهوم الخصوصية، كما وكان لمصلحة الحرية تحديداً التي ينص عليها التعديل الرابع عشر. وفي قضايا لاحقة، تطرقت المحكمة وأعضاؤها إلى تلك المسألة ولا تزال الانقسامات الأساسية في الرأي حولها قائمة، لكن العديد من الناس، بمن فيهم غير المتأكدين بوجوب السماح بالإجهاض أو عدمه، يوافقون على وجهات نظر القاضية أوكونور.

القاضية ساندرا  داي  أوكونور،

في قضية جمعية  تنظيم الأبوة في جنوب شرقي بنسلفإنيا ضد كايس

 1992

إنه لوعد من الدستور أن هناك مجالا من الحرية الشخصية لا يحق للحكومة اقتحامه...  ففي قلب الحرية يوجد الحق في قيام الإنسان بتحديد مفهومه الخاص للوجود، ولمعناه، وللكون، ولِسِرّ الحياة البشرية. فالمعتقدات حول هذه الأمور لا يمكنها تحديد الصفات المميزة للشخصية الذاتية إن هي تشكلت بإكراه من الدولة.

إن آخر مظاهر التغييرات المتعلقة بكيفية النظر إلى الخصوصية، وكيف أن التكنولوجيا هي، مرة أخرى، القوة الدافعة للتغيير، تكمن في توسيع الاستقلالية الذاتية الشخصية لكي تشمل حق المرء في رفض العلاج الطبي، وفي الواقع، حقه في اختيار الموت. ففي سنة 1990 واجهت المحكمة العليا موضوعاً لم تستمع إليه من قبل، هو المطالبة بحق الموت. والواقع أنه كان موضوعا جديدا نسبياً بالنسبة للبلاد ككل، وقد نشأ كنتيجة للانفجار المدهش في التكنولوجيا الطبية خلال العقود الثلاثة الماضية. فقد بات من الممكن مساعدة حياة الناس الذين كان من المتوقع، لغاية الستينات من القرن الماضي، موتهم بسبب حوادث أو مرض عضال. هذا، مع العلم أن لتلك التكنولوجيا حدوداً هامة وكذلك بعض الآثار السلبية. فبعض الذين ظلّوا على "قيد الحياة" بفضل تلك التكنولوجيا لن يملكوا نوعية حياة جيدة مطلقاً، وربما قرّروا أنهم يفضلون الموت بدلاً من مواصلة العيش وهم مُقيدون بآلات طبية.

وجد رئيس المحكمة وليام هـ. رينكويست أن الدستور يحمي حق الموت المستمد من ضمانات الاستقلالية الذاتية الشخصية التي تتضمنها فقرة تطبيق الإجراءات القانونية في التعديل الرابع عشر للدستور. فقد أكد أن لائحة طويلة من القرارات تساند المبدأ القائل إن "للإنسان القادر مصلحة في الحرية التي يحميها الدستور لرفض علاج طبي لا يريده". وفي خلال سنوات معدودة، أصبح هذا النوع من الخصوصية، أي حق الموت، مُتضمناً دستورياً وقانونياً في قوانين الولايات الخمسين، كما أن الكونغرس أقرّ قانوناً لحقوق المرضى يفرض على المستشفيات التي تتلقى مساعدات فدرالية إطاعة توجيهات المريض بالنسبة لرفضه المعالجة.

رئيس المحكمة وليام هـ. رينكويست،

في قضية واشنطن ضد غلوكسبرغ

1997

ان الفقرة المتعلقة بالإجراءات القانونية تضمن أكثر من مجرد المحاكمة المنصفة، وان "الحرية" التي تحميها تشمل أكثر من مجرّد غياب القيود الجسدية. ففي سلسلة طويلة من القضايا، قررّنا أنه، بالإضافة إلى الحريات المحدّدة التي يحميها قانون الحقوق، فإن "الحرية" التي تحميها بنوع خاص الإجراءات القانونية تشمل، حق الزواج، وإنجاب الأطفال، والإشراف على تعليم وتربية أبناء المرء، وخصوصية الحياة الزوجية، واستخدام وسائل منع الحمل، والسلامة الجسدية الكاملة، والإجهاض. كما افترضنا، واقترحنا بقوة، أن تحمي فقرة الإجراءات القانونية، الحق التقليدي في رفض العلاج الطبي غير المرغوب فيه لإنقاذ الحياة.

يدور في الوقت الحاضر نقاش كبير حول المدى الذي يتضمنه هذا النوع الأخير من الخصوصية. ففي الوقت الذي يوافق فيه معظم الناس على أنه يجب السماح للذين يعانون آخر مراحل المرض، برفض العلاج إذا هم اختاروا، تؤكد بعض المجموعات الأخرى أن فكرة الاستقلالية الذاتية الشخصية يجب أن تتوسّع لتشمل الانتحار بمساعدة الأطباء. وتؤكد تلك المجموعات أن حياة المرء تخصه، وأن ما يختار المرء عمله بتلك الحياة، سواء اختار أن يعيش أو أن يموت، يجب أن يكون مسألة قراره هو، مسألة خاصة به. لم تحظَ وجهة النظر هذه بالقبول على نطاق واسع، وهي في الوقت الحاضر، قضية رئيسية في السياسة؛ لكن كلا جانبي النقاش يوافقان على أن الاستقلالية الذاتية الشخصية، كشكل من أشكال الخصوصية المحمية، هي حق.

*     *     *     *     *

صامويل د. وارن ولويس برانديز،

حول "الحق في الخصوصية"

1890

لقد غزا المصّورون الفوريّون والمؤسسات الصحفية الفناء المقدس للخصوصية وللحياة البيتية؛ كما أن العديد من الأدوات الميكانيكية تهدّد بإثبات التنبؤ القائل "إن ما يُهمس في الحجرات الصغيرة سوف يذاع على سطوح المنازل."

ففي الرأي الذي أعطاه في قضية التنصّت، كما وفي المقالات التي كتبها سابقاً، وجّه القاضي برانديز تحذيراً شديد اللهجة  من أن التكنولوجيا يمكن أن تعطي الحكومة سلطة ليس للتنصّت على مكالمات الناس الهاتفية فحسب، بل وحتى على العادية منها أيضاً، وفي يوم ما، ربما سلطة تفحّص أوراقهم ووثائقهم دون الدخول إلى بيوتهم. وفي الوقت الذي كان برانديز ينبّه من استخدام الحكومة لتلك التكنولوجيا، بدأ الناس يرون، في الأزمنة الحديثة، أن تلك التهديدات للخصوصية لا تأتي من الحكومة وحسب، بل وأيضاً من مصادر أخرى كذلك. وهذا يُثير مسألة جديرة بالاهتمام حول الحق في الخصوصية.

كان الهدف الأصلي والدائم بالنسبة لجميع الحقوق تقريباً، والتي نُوقشت في هذا الكتاب، حماية الفرد ضد الحكومة. فحرية التعبير تضمن أن الحكومة لن تُسكِت الخطاب غير الشعبي أو تُعاقب الذين يقولونه. وتضمن حرية الدين أن الحكومة لن تؤسس كنيسة رسمية، أو تحدّ بطريقة ما من الممارسة الحرة للذين تختلف معتقداتهم الدينية عن غيرهم. الصحافة محمية ضد رقابة الحكومة في حين أن حقوق المُتّهمين تتطلب من الحكومة أن تلتزم الإجراءات العادلة في المحاكمات الجنائية. لكن لا الدستور ولا وثيقة الحقوق عالجا مسألة ماذا يحدث عندما تتعدّى جهات غير حكومية على الحريات الفردية. لقد اتخذ الكونغرس تدابير في حالات مُعيّنة عندما هدّدت جهات خاصة الحريات المدنية للملوّنين، ولكننا الآن، وليس فقط في الولايات المتحدة، نواجه مسألة الخصوصية في ما يُسّميه الكثيرون "عصر المعلومات".

مرة أخرى، تُهدّد التكنولوجيا، وهذه المرة عن طريق الكمبيوتر والإنترنت، بإلغاء قدرة الناس في السيطرة على المعلومات الخاصة بهم. لنأخذ مثلاً واحداً. يتعاقد معظم الذين لديهم تأمين صحي في الولايات المتحدة مع شركات خاصة. ولكي تتمكن هذه الشركات من استرجاع نفقات خدمات الأطباء، ينبغي على الأطباء إملاء استمارات يفصّلون فيها طبيعة المرض، وتقدمه، والخطوات المتخذة لصدّه، مثل الأدوية أو الجراحة. تُدخل هذه المعلومات بعد ذلك في الكمبيوتر، ومع مرور السنين، يتجمع سجل مُفصّل جداً عن صحة الشخص.

ما من شك في أن بعض الناس بحاجة للوصول إلى تلك المعلومات. كما أن شركة التأمين عليها التأكد من عدم وجود احتيال، ومن أن الخدمات الطبية التي سُجّلت في الفواتير قُدمّت فعلاً. وإذا استلم طبيب آخر أمر معالجة المريض، فسوف يحتاج لمراجعة التاريخ السريري السابق له. لكن من يحق له، باستثناء الطبيب، الوصول إلى السجل الطبي لشخص ما؟  هل يحق ذلك لأصحاب العمل المحتملين؟ ل يحق ذلك لشركات التأمين الساعية إلى معلومات عامة حول الزبائن المحتملين؟ هل يحق ذلك للبحاثة الطبيين الساعين إلى بناء قاعدة للمعلومات في محاولتهم اكتشاف علاج "لمرض" ما؟ عندما يتم إنشاء قاعدة معلومات في الكمبيوتر، فمن المستحيل تقريباً الحفاظ على سرّيتها بالكامل.

أكثر من ذلك، هناك شركات عديدة تجمع المعلومات حول زبائنها، مثل شركات بطاقات الإئتمان، وتعتبر أن المعلومات ملكها هي وأنها حرة في بيعها، أو توزيعها دون إذن من صاحبها. ن هو صاحب سجلات التاريخ الطبي أو المالي لشخص ما،  الأفراد أم الشركات التي يتعامل هو أو هي معها؟

ندخل الآن عصرا يصبح فيه قدر أكبر من المعلومات عن أي فرد متوافراً بفضل التقدم العلمي، مثل خريطة الجينوم البشرية وتصنيف الحمض النووي للإنسان (DNA). وما من شك في أن اكتشاف الحمض النووي ثبت أنه سمح بتقدم كبير جداً في التحقيقات الجنائية، لا يساعد على إثبات ذنب بعض مرتكبي الجرائم فحسب، بل وأيضاً براءة المتهمين خطأً، بل وحتى المُدانين بجرائم لم يرتكبوها.

غير أن بعض البحاثة يعتقدون أن الحمض النووي يحتوي على علامات تشير إلى ما إذا كان المرء معرضاً لخطر أنواع معينة من الأمراض، أو حتى إلى بعض أنواع السلوك الاجتماعي. من يحق له الوصول إلى تلك المعلومات؟  هل يجب أن تستند القرارات إلى الميول المزعومة نحو بعض الأمراض التي قد تنتج عن تسلسل مُعيّن للجينات (المورثات) للإنسان، علماً أن هذه المسألة ما زالت تحتاج إلى إثبات إحصائي. فمن يملك المعلومات حول جسد المرء؟ أليس هذا أيضاً شكلا من أشكال الخصوصية؟ لكن المعتدي الرئيسي على هذا المجال من الخصوصية حالياً ليس الحكومة بل الشركات المتخصصة في الأبحاث البيولوجية.

يزداد انتشار الاستخدا? العام للكمبيوتر الشخصي والاتصال بالإنترنت بسرعة ليصبح مثل استخدام الهاتف أو التلفزيون. جرى الترحيب بالإنترنت لكونها أعظم منتدى عام تم ابتكاره حتى اليوم يسمح لكل إنسان، أياً كانت إمكانياته المادية، إسماع صوته للآخرين. لكن، كما يشهد بصدده أي واحد من مالكي الكمبيوتر، يتعرض المرء لوابل من الرسائل غير المرغوب فيها على بريده الإلكتروني ولوابل متواصل من الإعلانات على جهاز استلام مواقع الشركات على الإنترنت. يستطيع هواة المداخلات الإلكترونية غير المشروعة الاعتداء على الكمبيوترات الخاصة وكذلك الصناعية، كما أن إطلاق فيروسات  الكمبيوتر يُسبّب الفوضى على المستوى الفردي ومستوى الشركات أيضاً. والمسألة ليست مجرّد أضرار مالية. أفليس من حق المرء أن يكون قادراً على اعتبار آلة الكمبيوتر خاصته كأداة شخصية، يمكنه بواسطتها كتابة الرسائل وإرسالها إلى مستلمين معينين؟ من له الحق، علاوة على المالك، في تحديد أية معلومات، وأية رسائل، وأية إغواءات سوف تحطّ على شاشة كمبيوتره، سواء كانت مرغوبا فيها أم لا؟

عندما يتحدث الأميركيون وغيرهم في العالم الصناعي، اليوم، عن الحق في الخصوصية، فإنهم يتحدثون عن حق ربما كان عمره مئات السنين كمفهوم، لكنه يتغير بنفس السرعة التي تتغير بها التكنولوجيا التي تُهدّده. فالناس خائفون من أن "الأخ الأعظم"، وهو الاسم الذي أعطاه جورج أورويل للحكومة العالمة بكل شيء، والذي سوف يعرف عنهم الكثير  وسوف يستخدم تلك المعلومات لغير مصلحتهم. لكن بقدر ما يخشون حكومتهم، بقدر ما يخشون أيضاً التهديدات التي قد تتعرض لها خصوصيتهم على يد الشركات والمؤسسة الطبية، إضافة إلى المجرمين الذين قد يستخدمون المعلومات المتجمعة من خلال الإنترنت  لإلحاق الضرر بمصالحهم.

حاول الكونغرس حماية خصوصية المعلومات عبر عدد من القواعد النظامية، بما يها قانون خصوصية الاتصالات الإلكترونية، لكن المشكلة تكمن في أن كمية المعلومات المتوافرة تزداد بمعدل هائل يفوق بكثير معدل وسائل مراقبة وضبط الوصول إليها. فهناك كمية من المعلومات اليوم كبيرة لدرجة أن مجرد أي فرد حاذق قادر على الوصول إلى الإنترنت ويحمل رقم الضمان الاجتماعي لشخص ما، يستطيع تأمين كل أنواع المعلومات عن ذلك الشخص بما في ذلك مخالفات السيّر، والعادات الشرائية، وأكثر. ومتى حصل على معلومات كافية، يمكنه حتى "سرقة" الهوية العامة لهذا الإنسان. أن حق الإنسان في أن يُترك وشأنه لا زال يحظى بتقدير كبير لدى البشر المتمدنين؛ أما كيف سيحمي هؤلاء الناس هذا الحق في عصر المعلومات الجديد، فمسألة تبقى موضع ترقّب.

قراءات إضافية

Ellen Alderman and Carolyn Kennedy, The Right to Privacy (New York: Knopf, 1995).

David H. Flaherty, Protecting Privacy in Surveillance Societies (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1989).

Richard F. Hixson, Privacy in a Public Society (New York: Oxford University Press, 1987).

Philippa Strum, Privacy: The Debate in the United States since 1945 (Fort Worth: Harcourt Brace, 1998).

Alan F. Westin, Privacy and Freedom (New York: Athenaeum, 1968).

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي