التنوع | توفير حيز لنمو الجميع

17 حزيران/يونيو 2008

التغير سينفعك

 

بقلم إيلان ستافنز

اللغة، بطبيعتها، تمثّل قوة حية دائمة التغير في المجتمع. يتغنى الكاتب بهذا الواقع ويتناول بعض التأثيرات التي ساهمت، بوجه خاص في دينامية وحيوية اللغة الإنجليزية.

إيلان ستافنز هو أستاذ كرسي لويس-سبرينغ في موضوع ثقافة أميركا اللاتينية واللاتينو (أي المتحدرين من دول أميركا اللاتينية) في كلية آمهرست، في مدينة آمهرست بولاية مساتشوستس. من بين الكتب التي وضعها “Dictionary Days” (أيام القواميس) (دار غراي وولف) و (Love and Language) (الحب واللغة) (مطبعة جامعة يال).

ما هو عدد الكلمات في اللغة الإنجليزية؟ إن مجمل عددها وفقاً لقاموس أكسفورد (أكسفورد إنجلش ديكشنري) يزيد عن 600 ألف كلمة. ولا أحد منا، بالطبع، يملك قدرة تذكّر أكثر من جزء ضئيل منها. وما هو هذا العدد الذي نتذكره بالتحديد؟ يتوقف الجواب على ذلك على الشخص الذي تسأله. فعدد المفردات التي يعرفها الفرد يتغير كثيراً أثناء حياته: فمن حفنة كلمات يتفوه بها طفل، مروراً بمجموعة مفردات المراهقين التي تدفعها المصطلحات التي لا يستعملها غيرهم، وصولاً إلى ما يتفوه به الراشدون في ظروف مختلفة (المنزل، العمل، الأصدقاء، الخ). والحقيقة هي أن مخزون المفردات لا يكتمل بشكل نهائي إطلاقا. ولا تقتصر المسألة فقط على كوننا، كأفراد، نتغيّر دوماً، بل إن اللغة نفسها ليست جامدة هي أيضا. وحجم قاموس أكسفورد (أكسفورد إنجلش دكشنري)، بصفته معجماً تاريخياً، ما زال يتزايد. وهو يتضمن الآن مفردات أكثر من أي وقت مضى. إلاّ أن عدداً هائلاً من هذه المفردات، التي يطلق عليها اسم "أصوات"، قديم يكاد يكون مهجوراً تماما. ويشير كل هذا إلى وجود قوتين متضاربتين تؤثران  باستمرار في لغتنا: سرعة الزوال وطول البقاء. واللغات الميتة هي وحدها اللغات المتحجرة التي لا تتغير. خذ اللغة الآرامية، على سبيل المثال. إن استعمالها اليوم مقتصر بوجه عام على البحاثة في التاريخ أو الدين. وبالتالي فلا حاجة لاستحداث كلمات آرامية لكلمات  "فاكس" و"الأموال اللينة" و"استيرويد" (وكلها كلمات تشير إلى أمور حديثة). وبالتالي فإن معاجمها تبقى ثابتة دون تغير. ومن الناحية الأخرى، فإن العديد من اللغات الحديثة (على سبيل المثال، المندارين الصينية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية والروسية والعربية) في حالة تغير دائمة. ولكي تبقى حية، تقوم هذه اللغات  بالتواصل الدائم مع غيرها وتستورد مفردات أجنبية، في نفس الوقت الذي تُصدّر فيه قاعدتها البيانية إلى اللغات الأخرى. وتشجع موجات الهجرة الكبيرة في العالم الحديث، بالترافق مع التكنولوجيا الفورية التي ابتكرناها (التلفزيون، الراديو، السينما، الإنترنت) على التخصيب اللفظي المتبادل. فما  عدد الكلمات الألمانية التي تحتويها اللغة الإنجليزية؟ وما عدد الكلمات الأنجلو سكسونية التي تم تقبلها في الإسبانية؟ ومرة أخرى الجواب هو: الكثير منها. إن التوتر القائم بين الزائل والباقي هو مفتاح الحياة: لا يمكن تغيير اللغة إلى درجة يُمحى معه جوهرها، كما أن الجوهر بمفرده لا يبقي اللغة لغةً حية.

غني عن القول إن بعض اللغات أكثر تقلباً وتقبلاً للتغير من غيرها. فقد ولدت أنا في المكسيك. وبعد فترة قصيرة من هجرتي إلى الولايات المتحدة في العام 1985 (إلى مدينة نيويورك على وجه التحديد)، استوقفني وسع اللغة الأميركية الإنجليزية. فأي رحلة بسيطة في قطار الأنفاق كانت تتيح لي التواصل مع عشرات اللغات المختلفة. وكان العنصر المشترك بين الجميع هو الرغبة في إتقان اللغة الإنجليزية. إلا أن تلك الرغبة كانت تصطدم بتواجد اللغات التي حملوها معهم من مواطنهم الأصلية في كل مكان. وكانت النتيجة خليطاً من الألسنة أشبه ببرج بابل. وبعبارة أخرى ، كانت اللغة الإنجليزية التي أسمعها حيثما ذهبت لغة غير صافية نقية بل علقت فيها شوائب ومتفاعلة على الدوام مع رموز أخرى للتواصل والتخاطب. ويتعلم الملايين من المهاجرين اللغة الإنجليزية، كما تعلمتها أنا، من الشارع. وقد تتسنى لبعضهم فرصة التدرب عليها بشكل أكثر انتظاماً، لكن حتى هؤلاء يؤثر عليهم انتشار الثقافة الشعبية وهيمنتها في كل مكان. وثقافة البوب أو الثقافة الشعبية هذه لا تلتزم بالقواعد الصارمة، إذ يسعدها أن تكون فوضوية غير مكبوحة لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه. وهكذا، فإن فهم كيفية تفاعل اللغة مع هذه الوسيلة يعني تقدير حريتها.

لدي في مكتبتي الخاصة مجموعة كبيرة من القواميس، معظمها بلغة واحدة، وقليل منها تاريخي. ويتصف عدد منها بمواصفات قومية أو جغرافية: معجم للمفردات الإسبانية الأرجنتينية، وآخر للمفردات الإنجليزية في جنوب غرب أميركا، وثالث يتناول المفردات الفرنسية في كيبيك. كما أمتلك قواميس تدور حول معارف معينة: الطب، والرياضة، والدعاية. ولدي علاوة على ذلك قواميس ثنائية اللغة، وحتى متعددة اللغات، مثل المعجم العبري-اليوناني-اللاتيني المؤلف من جزأين. ويشكل وجود جميع هذه القواميس قربي مصدر إلهام لي. فهي تحوي كل الكلمات التي استُخدمت في نظم قصائد العالم كلها،  من الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وهوميروس ودانتي، حتى شكسبير وإميلي ديكنسون، وألن غينزبرغ، ودريك والكوت، وإن يكن كخليط غير منسق شعرياً بالطبع. والشعراء، بالنسبة لي، هم "مكتشفو" اللغة. فهم يسبغون عليها المعاني من خلال ترتيبها، في نظام جديد، لم يسبق له مثيل.

تُشكِّل القواميس أدوات ضرورية للمحافظة على اللغة بشكلها المتماسك. فالقاموس هو دليل يرشد على كيفية الاستعمال، وخزان للحكمة. كما أنها صناديق للذاكرة تحوي الطريقة التي كان من سبقنا من المتكلمين يستخدمون فيها الكلمات. ويمكنها أيضاً أن تكون أدوات للقهر، ففي أوقات الاضطهاد السياسي، تستخدمها أنظمة الحكم الاستبدادية كإثبات على أن الثوار يسيئون استعمال المفردات، أي أن الأنظمة تختلس بذلك التراث الجماعي. وأكثر ما أجده محبباً، ومحبطاً، في القواميس هو عدم فعاليتها. فطموحاتها تفشل دوماً بسبب طبيعتها. ففي نفس اللحظة التي تصدر فيها طبعة جديدة مجلّدة من قاموس أكسفورد إنجلش دكشنري تكون محتوياتها قد أصبحت قديمة تخطاها الزمن. فالطبعة الجديدة لا تحتوي على آلاف الكلمات التي صاغها الناس منذ وصول مخطوطة الطبعة الجديدة إلى المطبعة.  وهكذا، فإن حال واضعي القاموس، كالحال في أسطورة سيسيفوس: يتعين عليهم  بدء عملهم مجدداً، على الفور، دون هوادة، ودون نهاية. ولكنهم لن ينجحوا في إكماله تماماً مطلقاً، لأنهم يحاولون المستحيل: احتواء اللغة، وجعلها قابلة للتحكم فيها. فاللغة الحية، بطبيعتها نفسها، صاخبة وذات طاقة لا تنضب.

ذكرت "الهجرة" في فقرة سابقة. وعندما يتعلق الأمر باللغة الإنجليزية الأميركية، كما فهم ذلك بوضوح تام الصحفي الأميركي إيتش. إل. مِنكن، فإن ثراءها وقدرتها على اغتراف ما تحتاجه من مفردات يعتمدان على الوجود المنشط للمهاجرين الوافدين من كل بقعة من بقاع الأرض. وعندما يقوم البلد بوظائفه بشكل صحيح، يكتسب المهاجرون، خلال فترة وجيزة، ما يكفي من مهارات اللغة الإنجليزية ليصبحوا جزءاً من الفسيفساء الاجتماعية القائمة. لكن استيعابهم لا يكون إطلاقاً عملية تسير في اتجاه واحد. فمع تحول المهاجرين إلى أميركيين، تتغير الولايات المتحدة هي أيضاً بسبب وجودهم. وتمكن ملاحظة هذا التبادل على أكثر ما يكون من وضوح على مستوى اللغة. فكما أصبح القادمون الجدد، الايرلنديون والاسكندنافيون واليهود يتكلمون اللغة الإنجليزية بطلاقة، كذلك اندمجت في اللغة الأم الأصوات والتعبيرات والأنماط النحوية وغيرها من البراعات اللفظية التي حملوها معهم. وتبنى باقي السكان تلك العناصر الجديدة.

ولا أشعر بالاندهاش عندما أجد، كما يحدث في أحيان كثيرة، أن قسماً كبيراً من مؤلفي المعاجم هم من عائلات مهاجرة، وأن والديهم هم الذين تعلموا الإنجليزية لأول مرة. ونتيجة لذلك، كثيراً ما كانت الكلمات تثير التساؤل والنقاش في منازلهم. لماذا تتم كتابة هذه الكلمة بهذه الطريقة؟ ما هي طريقة لفظها؟ ما هي جذورها؟ وقد خبرت كل ذلك بنفسي: إن المهاجرين يعتنقون لغة جديدة. ولكونهم دخيلين على اللغة فإنهم يعتنقونها عن إيمان، ويدرسون قواعدها بحماس  قلما يشاطرهم فيه من كانت الانجليزية لغتهم الأم.

وهكذا، فإن الجواب الذي أوصي به للرد على السؤال حول عدد كلمات اللغة الإنجليزية هو: أقل من اللازم، دوما.

الآراء المعبر عنها في هذه المقالة لا تعكس بالضرورة وجهات نظر أو سياسات الحكومة الأميركية

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي