التنوع | توفير حيز لنمو الجميع

01 أيار/مايو 2008

حركة التواصل بين الأديان

 
في لوس انجلس تقوم مجموعة من السكان بالانحناء بعد قبول كهنة بوذيين تايلانديين الطعام الذي قدمه السكان لهم.
في لوس انجلس تقوم مجموعة من السكان بالانحناء بعد قبول كهنة بوذيين تايلانديين الطعام الذي قدمه السكان لهم.

بقلم غوستاف نايبور

منذ ما يزيد عن قرن وبعض المجموعات الدينية الأميركية تحاول التواصل مع غيرها من المجموعات الدينية، أملاً منها باكتساب درجة أكبر من التفهم والتفاهم والتعاون بين المجموعات المختلفة.

غوستاف نايبور هو مؤلف كتاب، "ما أبعد من التسامح: البحث عن التفاهم بين الأديان في أميركا". وهو أيضاً أستاذ مشارك للدين في جامعة سيراكيوز في ولاية نيويورك.

في العام 1991، طرح الحاخام في كنيس في لونغ آيلاند، بضواحي مدينة نيويورك، سؤالاً استقصائياً على أحد قادته المدنيين. هل توجد مجموعة من المسلمين في الأحياء المجاورة قد ترغب في  التعرف على أعضاء الكنيس لتبادل بعض المعلومات حول الديانتين؟ ولم تكن هذه الفكرة غريبة تماماً بالنسبة للحاخام جيروم دافيدسون، الزعيم الروحي لمعبد بث – إيل في مقاطعة ناساو، بولاية نيويورك. فقد كان مسؤولاً منذ سنوات عن دعوة شخصيات معروفة من غير اليهود، مثل البروتستانت، والكاثوليك، وأحياناً المسلمين الأميركيين، للتكلم أمام منظمته الحاخامية  القومية. ولكنه قال إنه ما من أحد حاول القيام بهذا الأمر على المستوى المحلي، وأضاف قائلاً، "شعرت أنه من المهم محاولة ذلك."

استغرق الأمر بعض الوقت، ولكن خلال سنة واحدة كان بعض الأعضاء البارزين في معبد بث – إيل قد وافقوا على بدء حوار مع نظرائهم في جمعية لونغ آيلاند الإسلامية، القائمة في مسجد يبعد عدة أميال عن المعبد. وقد بدأوا العمل متناولين المواضيع البسيطة، فتشاطروا المعلومات حول طريقة احتفاء ديانتيهما المختلفتين باللحظات الكبرى في الحياة (ماذا تفعل عند ولادة طفل؟ كيف تحتفل بزفاف؟)، ثم انتقلوا لمناقشة المبادئ الدينية في كتبهم المقدسة. وعندما بدأوا يتعرفون على بعضهم البعض، قارن اليهود والمسلمون خلافاتهم حول الشرق الأوسط، أي حول "المواد المعقدة"، كما وصف دافيدسون تلك المناقشات. وعندما أجريت المقابلة معه بخصوص بحث يتعلق بكتاب حول العلاقات بين الأديان، كان الحوار قد أصبح في سنته الخامسة عشرة. "هل يحقق ذلك أي فرق؟" وتساءل فاروق خان، الطبيب الذي خدم كرئيس للمسجد المذكور، "هل يحدث ذلك أي فرق؟" وأجاب أنه لا يحدث فرقاً على المستوى العالمي ولكنه استطرد قائلاً، "إذا استطعت مساعدة جماعتين في فهم بعضهما البعض بصورة أفضل، فإن هذا الأمر يعتبر بالنسبة لي إنجازاً."

وإذا بدت هذه القصة غير مألوفة للقراء، فلأن هذا النوع من اللقاءات نادراً ما يظهر في العناوين الرئيسية للصحف، التي غالباً ما تكرس لقصص النزاعات، لا التعاون، بين المجموعات الدينية. لكن اجتماعات لونغ ايلاند تندرج ضمن نمط بدأ يبرز إلى حيز الوجود في الولايات المتحدة. فحتى عندما تترافق الخلافات الدينية مع التوتر والعنف في الأخبار، يظل التعاون بين الأميركيين الذين يتبعون معتقدات دينية مختلفة في تعاظم. ويظهر هذا التوجه على شكل اجتماعات منتظمة بين أتباع ديانات مختلفة، لإجراء مباحثات رسمية أو للعمل المشترك في مشاريع اجتماعية، مثل تشغيل مطبخ لإطعام الفقراء أو برنامج لتعليم الأطفال القراءة والكتابة. وقد أفادت دراسة أجراها معهد هارتفورد للأبحاث الدينية في ولاية كونتيكت، أن الجهود الاجتماعية التعاونية، بين أتباع الديانات الذين استطلعت آراءهم، بما في ذلك أتباع الديانات المسيحية واليهودية والإسلام وغيرها، ازدادت أكثر من أربعة أضعاف بين العام 2000 والعام 2005، إذ بلغت نسبتها 38 بالمئة بين أتباع جميع الديانات.

دولة من المؤمنين

طلاب وطالبات يهود ومسلمون يشاركون في تبادل آراء بين الأديان المختلفة نظمته كنائس سانت بول، بمنيسوتا.
طلاب وطالبات يهود ومسلمون يشاركون في تبادل آراء بين الأديان المختلفة نظمته كنائس سانت بول، بمنيسوتا.

هناك حقيقتان تساعدان في شرح هذا الاتجاه. أولاً، وفي المقام الرئيسي، إن الولايات المتحدة هي دولة متدينة، كما تثبت ذلك استطلاعات الرأي القومية. فالأميركيون يثمنّون المعتقدات والممارسات الدينية الأساسية، وهي مزية اتسمت بها حياة الدولة في الماضي وفي الوقت الحاضر. وفي شهر حزيران/يونيو من العام 2008، أجرى منتدى بيو للحياة الدينية والعامة استطلاعاً واسعاً شمل أكثر من 35،000 فرد، أظهر أن 92 بالمئة من الأميركيين يقولون إنهم يؤمنون بالله، و75 بالمئة يقولون إنهم يصلون على  الأقل مرة واحدة في الأسبوع، والعديد منهم يومياً. وقد جاءت هذه النتائج منسجمة مع استطلاعات للرأي كانت قد أجريت سابقاً وجاء فيها أن ما يزيد عن 7 من كل 10 أميركيين قالوا إن الدين "مهم" أو "مهم جدا" في حياتهم. ويمكن تعقب الاعتقاد الواسع بقيمة الدين بحد ذاته إلى الماضي الأميركي. فقد أعلن الرئيس جورج واشنطن في خطابه الوداعي سنة 1796 أن المواطنين في أي جمهورية لن يتمكنوا من حكم أنفسهم وممارسة حرياتهم على الوجه الأكمل ما لم يتحلوا بالفضيلة. وأضاف أن الفضيلة المدنية ترتكز إلى الدين والأخلاق (من اللافت انه لم يحدد ديناً معيّنا).

ثانياً، إن الاتجاه نحو التعاون بين الأديان يرتبط بالتحول الديموغرافي الذي ما زالت الولايات المتحدة تشهده منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين. ففي تشرين الأول/أكتوبر، 1965، وبعد أسابيع من النقاش في الكونغرس، وقّع الرئيس ليندون بي. جونسون تشريعاً أدخل إصلاحات واسعة على قوانين الهجرة. وفتح القانون الجديد الأبواب أمام مهاجرين جدد قادمين من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وأحدث قدومهم من هذه المناطق مزيداً من التنوع في المشهد الديني للدولة. ذلك أن القادمين الجدد لم يضموا في صفوفهم فقط المسيحيين واليهود، الذين كانوا متواجدين في القارة الأميركية على الأقل منذ القرن السابع عشر، بل كان بينهم أيضا جماعات بوذية، وهندوسية، ويانية، ومسلمة، وسيخية، وزرداشتية وغيرها.

وما عنته هذه الهجرة على الصعيد العملي هو أن المسيحيين واليهود والمسلمين والهندوس والبوذيين في المدن الكبيرة وضواحيها، وجدوا أنفسهم يتعايشون جنباً إلى جنب ويحتكون ببعضهم البعض في نفس أماكن العمل والجامعات والأحياء السكنية. وهناك الآن عدد متزايد من الأشخاص الراغبين في زيادة توطيد العلاقات بين هذه المجموعات المتنوعة. فمثلاً، ترغب إيبو باتيل، المسلمة المولودة في الهند، التي هاجرت عائلتها إلى الغرب الأوسط الأميركي في سبعينات القرن الماضي، في المساعدة في إلغاء الصور النمطية التي تحملها كل جماعة عن الجماعات الأخرى من خلال تنظيم الأحاديث والنشاطات التي يمكن أن تتمازج فيها هذه المجموعات سوية. وقامت باتيل، بهدف تحقيق ذلك بعد إكمال دراستها الجامعية في ولاية إيلينوي وإكمال دراستها  العليا في جامعة أوكسفورد، بتأسيس منظمة "شباب التواصل بين الأديان"، ومقرها في شيكاغو. وتنشط المنظمة بشكل أساسي في أحرام الجامعات، وتسجل الطلاب للالتقاء عبر الحدود الدينية، ومناقشة المعتقدات الأساسية، والتطوع معاً في مشاريع مشتركة، مثل إصلاح بيوت الفقراء وتنظيف حدائق المدينة. وتقول باتيل، المديرة التنفيذية للمنظمة الآن، إن الفكرة من وراء ذلك ليست تحويل أي أحد إلى دين آخر، بل تعزي? هوية الطلاب الدينية في نفس الوقت الذي تتاح لهم فيه فرصة اكتشاف التقاليد الأخلاقية المشتركة بين أديانهم. 

تاريخ حركة التواصل بين الأديان

يمكن تَتبّع مسار الفكرة الأساسية للحوار الفكري بين الأقليات الدينية في شيكاغو إلى حدث تاريخي منفرد حصل في 11 أيلول/سبتمبر، 1893.  فقد انعقد في ذلك التاريخ مؤتمر خاص بينما كانت شيكاغو تستضيف المعرض العالمي، عندما قام بروتستانت من سكان المدينة بتنظيم هذا التجمع، الذي أطلق عليه اسم "برلمان الأديان العالمي"، بهدف دعوة مندوبين من 10 مجموعات دينية مختلفة من جميع أنحاء العالم إلى شيكاغو للتحدث عن معتقداتهم وشعائرهم الدينية الخاصة. وتحول الحدث، الذي دام حوالي أسبوعين، إلى حدث قومي مثير للاهتمام كمساق دراسي عام للجميع حول الدين المقارن. وحضره التجمع آلاف الناس، بما في ذلك مراسلو الصحف الذين نقلوا وقائع الجلسات من شواطئ أميركا الغربية إلى شواطئها الشرقية. والأمر الذي كان هاماً بنوع خاص هو الاهتمام الذي أولي للمتحدثين من غير المسيحيين، ولا سيما لشخصين من جنوب آسيا هما أستاذ هندوسي يدعى  سوامي فيفكانادا، وراهب بوذي يدعى أنغاريكا ذارمابالا. وكان كل منهما يمثل ديناً يكاد الأميركيون لا يعرفون عنه شيئاً ولا يفهمونه. وترك الرجلان انطباعاً قوياً لدى الحشود التي سمعت كلمتيهما ولدى القراء الذين كانوا يتابعون التقارير الصحفية المنتظمة حول الحدث. وقد دعا كل منهما إلى الحوار والاحترام المتبادل بين أديان العالم. وأعلن فيفكانادا الذي تكلم في أول أيام البرلمان، أن الجرس الذي قرع في الجلسة الافتتاحية كان "الناقوس الذي أعلن موت التعصب." وفي حين أننا نعرف اليوم بالطبع أنه تفوه بأمل لم يتحقق حتى الآن رغم مرور قرن، إلا أن كلماته ما زالت قادرة على إلهاب مشاعر البعض والتأثير فيهم.

 وقد اختتم البرلمان أعماله بدون ترتيب خلف لمتابعة أفكاره. ولم يبدأ في الواقع بروز الاهتمام الواسع بحوار الأديان، لا في الولايات المتحدة ولا في بريطانيا العظمى، إلا في أواسط التسعينات من القرن الماضي. فقد استقطب الاحتفال المئوي بهذا البرلمان آلاف الناس إلى شيكاغو في العام 1993، وكان هذا الحشد كافياً للتشجيع على إنشاء منظمة دائمة لمواصلة مثل  هذه التجمعات العالمية. وقد نظم مجلس برلمان أديان العالم (CPWR) اجتماعاً في العام 1999 في مدينة كايب تاون، بجنوب أفريقيا، واجتماعاً في العام 2004 في برشلونه، بأسبانيا، وتقرر عقد الاجتماع التالي في العام 2009 في استراليا.

وبالنسبة للكثير من الأميركيين، يتم العمل المهم في مجال العلاقات بين الأديان على المستوى المحلي كما يظهر في مثال لونغ ايلاند. وقد حصل الكثير في أعقاب الهجمات الإرهابية التي حصلت في 11 أيلول/سبتمبر، 2001 على مدينة نيويورك وعلى واشنطن العاصمة. وعلى الرغم من كون الدمار الذي حدث في ذلك اليوم زاد من حدة التوترات بين المسلمين وغيرهم في بعض الأماكن، إلا أن رد الفعل ذلك لم يكن شاملاً بأي شكل من الأشكال. ففي العديد من المدن، مثل سياتل ودنفر وواشنطن، تجمعت مجموعات من المسيحيين واليهود عقب الهجمات مباشرة لحماية المساجد من الاعتداءات ولطمأنة الجيران وزملاء العمل المسلمين. وعلى المدى الأطول، حثَت الهجمات أتباع الديانات المختلفة على مباشرة الحوار مع بعضهم البعض. وأطلق العديد من المسلمين الأميركيين، بمبادرة فردية منهم، سلسلة من البيوت المفتوحة، أو "أيام المساجد المفتوحة"، لتعريف الجيران المهتمين بالأمر على مبادئ الإسلام الأساسية.

ولكن مما لا ريب فيه هو أن هذه التوجهات ليست شمولية يشارك فيها الجميع. فهناك الكثير من  الأميركيين المتدينين، من جميع المذاهب، ممن لا يشاركون في هذه النشاطات. ويشعر البعض منهم بارتياب عميق، بل حتى العداء، إزاء هذا الحوار، إذ يؤمنون أن دينهم وحدث هو الذي ينطوي على الحقيقة المطلقة. ويشكل بدء حوار ديني مع الآخرين، من هذا المنطلق، إهداراً للوقت، أو حتى ما هو أسوأ من ذلك. ويتمتع هؤلاء الأشخاص، بموجب التعديل الأول للدستور الذي يضمن الحرية الدينية لجميع المواطنين، بحق الحصول على حماية كاملة لمعتقداتهم وتصرفاتهم.

ولكن، وكما وجد تقرير بيو الذي سبق ذكره، فإن غالبية الأميركيين ليست دوغماتية متشبثة بآرائها إلى هذه الدرجة عندما يتعلق الأمر بدينها. وكما اكتشفت أنا في أبحاثي، فإن هناك الكثيرين ممن يرغبون في معرفة المزيد عن معتقدات وممارسات جيرانهم، وهم مستعدون لصرف الوقت للتعرف على ذلك. وما يحث الكثيرين على ذلك هو فضولهم نفسه. لكن لعل الأسس الأفضل تكمن في ما كتبه منذ 41 سنة القس مارتن لوثر كينغ جونيور، وهو قس معمداني أميركي- أفريقي ويتذكره الناس على الدوام لتزعمه حركة الحقوق المدنية الأميركية. لكن مارتن لوثر كينغ صادق قرب نهاية حياته راهباً بوذياً فيتنامياً منفياً يدعى ثيتش نهات هانه، كان مسافراً في الولايات المتحدة في مهمة سلام. فقد ألهمت دعوة نهات هانه للسلام والمصالحة في فيتنام كينغ، الذي رشح لاحقاً هذا الراهب لجائزة نوبل للسلام. وفي حوالي  ذلك الوقت، كتب كينغ  مقالاً طلب فيه من القراء أن يتصورا البشرية وقد "ورثت ,’بيتاً عالمياً‘ عظيماً علينا أن نعيش فيه مع بعضنا البعض". وعدّد كينغ سكانه بأنهم من اليهود وغير اليهود، ومن الكاثوليك والبروتستانت، ومن المسلمين والهندوس، ووصفهم بأنهم عائلة متنوعة بأفكارها وثقافتها، لكن على هذه العائلة "أن تتعلم بشكل ما أن تتعايش مع بعضها البعض بسلام، لأنه لن يتسنى لنا مطلقاً بعد الآن أن نعيش مرة أخرى منفصلين عن بعضنا البعض."

الآراء المعبر عنها في هذا المقال لا تعكس بالضرورة وجهات نظر أو سياسات حكومة الولايات المتحدة.   

احفظ ضمن مفضلاتك عبر:     المفضل؟ كيف أختار مقالي